بقلم : د. محمد المنشاوي..
توقفت كثيرأ عند ظاهرة أقرب ما تكون إلى “هرولة” سياسية لكثيرٍ من الأنظمة العربية ، بإيفاد وفودها الرسمية إلى دمشق لتهنئة أبو محمد الجولاني قائد الإدارة العسكرية الجديدة والتودد إليه ، قبيل أن يقدم الرجل ما يؤكد التنصل من ماضٍ ، لطالما رفضته وتحفظت عليه هذه الدول إقليميًا ودوليًا …
ولم تتحلَ هذه الدول بقدر من التريث والحيطة الكافيين إلى أن يقدم الرجل وإدارته العسكرية ما يزرع الطمأنينة فى النفوس المتوجسة خِيفةً من ماضٍ لرجل لطالما إرتبط إسمه وتاريخه بمسار تنظيمات القاعدة وداعش والنصرة وغيرها..
فما أن أُعلن نبأ هروب بشار الأسد وسقوط الدولة السورية فى الثامن من الشهر الماضي والدخول “سابق التجهيز ” لأبو محمد الجولاني إلى دمشق ، حتى تسابقت الحكومات لاسيما الخليجية منها قبل الأجنبية فى إيفاد وفودها الرسمية للجلوس مع الرجل ومباركته ..
وما يدعو للدهشة ،أن هذه “الهرولة” العربية ، تزامنت وبنفس الوتيرة مع قيام واشنطن بإعطاء ما يمكن أن يكون “صك البراءة” لأبو محمد الجولاني زعيم تحالف قوات تحرير الشام ، وشهادة إبراء زمه على أنه لم يعد مطلوبًا حيًا أو ميتًا ، بما يمثل علامة الرضا من حاكم البيت الأبيض وأجهزة مخابراته ..
بل ظهر الأمر كما لو كان ضوءاً أخضراً للحكومات فى المنطقة وخارجها ، لتشجيعها على إقتفاء أثر أمريكا وتعليماتها ، للتعاطى مع رجل دمشق الجديد …
صحيحٌ تمامًا ، أن نظام آل الأسد الذى جثم على سوريا طوال نحو ٥٤ عامًا ، لاسيما ال ١٤ عامًا الأخيرة من تفجر الثورة على الأسد الإبن ، لم يترك لهذا النظام السلطوى مَنْ يتعاطف معه أو يترحم على أيامه لكثرة ما إرتكب من فظائع ومجازر وإعتقالات وتعذيب فى حق الشعب ، إلا أن شكل وطريقة وسرعة دخول أحمد الشرع وتمسكه بالإبقاء على رفقته من اللون السياسي الإسلامى المسلح ، يدعو إلى التساؤل والقلق لدى العقلاء فى الدول الأخرى الذين فضلوا التريث فى الحكم على التجربة الجديدة قبل التعاطى مع صاحبها ..
ناهيك عن الأسلوب والطريقة والتفاهمات الإقليمية والدولية التى مهدت لهذا الدخول السريع لرجل تحرير الشام الى سوريا ، حتى برغم حالة الفرح الشعبى الذى واكب هذا الدخول حتى الآن ، لأنها مشاعر تلقائية لها ما يبررها من شعبِ عانى الكثير من ويلات الأسد الهارب ..
فالبرغم من تلك المشاعر الشعبية المرحبة ، فإن هذا التوجس لدى الكثيرين من العقلاء تجاه رجل دمشق الجديد له ما يبرره للأسباب الآتية : –
– أن الخطوات الأولى لأحمد الشرع فى تكوين إدارته الجديدة كانت نوعاً من “التمكين ” ، من خلال الإحتفاظ بعناصر اللون السياسي الإسلامى الموحد للإدارة الجديدة دون ضم غيرهم ، على طريقة “أهل الثقة” ..
– قيام الرجل بترفيع وترقية زملائه من عناصر الميليشيات المسلحة – التي لم يحلها حتى الآن – لشغل مناصب عسكرية مهمةً فى نواة الجيش السورى الجديد ، رغم إفتقارهم للخلفية العسكرية ورغم صدور أوامر إعتقال دولية وأحكام بالإعدام فى حق كثيرٍ منهم لتورطهم فى أنشطة إرهابية ..
– عدم الإستعانة بكوادر المعارضة السياسية السورية فى الخارج والتى لطالما عانت طوال ١٤ عامًا من النزوح والإبعاد والتنكيل من النظام السابق ودفعت الثمن أكثر من غيرها ..
– عدم الإستعانة بكبار ضباط الجيش السورى من ذوى الكفاءة والخبرات وكوادر الأكاديميات العسكرية والذين لم يثبت تورطهم بجرائم فى حق الشعب ولا ينتمون لشبيحة الأسد وأجهزته الأمنية ..
– الحرق الكامل لمبانى مصلحة الأحوال المدنية والجوازات فى دمشق فور الإستيلاء على العاصمة للتلاعب بحرية فى تجنيس مئات آلاف المسلحين غير السوريين ..
وما يعزز من توجس المتوجسين ، ذلك التأييد والإستقواء والمباهاة لقادة التنظيم الدولى للإخوان الإرهابى بميليشيا تحرير الشام وقائدها أحمد الشرع ..
فقد هدد الإرهابى الإخوانى حمزة زوبع علانية وعلى الفضائيات الحكومات العربية بتصدير الثورة إليها وأن ما جاء به الجولانى سيمتد إلى دولهم ..
وقال هذا الإرهابى الهارب موجهًا كلامه للعرب ؛ “لا ..لا ياجماعة .. أبو محمد الجولانى مش جاى من عمل إجتماعى .. دا جاى ومعاه السلاح والمسلحين .. إنتم فاكرين أنهم ناس طيبين !! ..
فماذا يعنى ذلك ؟؟ .. هل يعنى أن ثقافة تصدير الثورة عندهم هى دستور غير مكتوب يُعمل به ولا يُعلن عنه ، حتى وإن أعلن الشرع عدم نيته فى تصديرها ؟؟..
ثم بشأن ما يحدث حالياً من مصادمات بين ميليشيات موالية لأمريكا وأخرى موالية لتركيا ، هل يعنى أن الشعب السورى قد تخلص من صراعه مع الأسد ، ليتوحل فى مستنقع صراعات بين ميليشيات متعددة الإنتماءات الإقليمية والدولية فى بلد يتواجد على أرضه أكثر من ٨٠٠ قاعدة وموقع لخمس قوى أجنبية ؟؟..فضلًا عن كثيرٍ من التساؤلات التى تزيد من تشكك المتشككين وتوجس المتوجسين !!.