فجأة ، تحولت “بيروت” قبل أيام إلى ضحية “دمار نووى” بوصف محافظها الباكى على الشاشات ، وتهشم زجاج وخلعت أبواب ونوافذ وتهدمت حوائط نصف بناياتها ، وسرت حمى الرعب فى المدينة لساعات طويلة ، وتشرد مئات الآلاف على وجوههم إلى حيث لا مأوى ، وسقط القتلى وضاع المفقودون بالمئات ، والجرحى بالآلاف ، ولم يعد بوسع المستشفيات استقبال المزيد ، ولا بوسع سيارات الإسعاف نقل الضحايا ، ووقعت خسائر قدرت بمليارات الدولارات ، وكان السبب كعادة الحوادث اللبنانية على قدر مثير من الغموض ، انفجار صغير تبعه الانفجار الأكبر فى منطقة ميناء بيروت ، أما ما الذى انفجر ؟، فلم يكن أحد يعرف فى البداية على وجه التحديد ، وقيل على وجه التقريب أنه مخزن ألعاب ومفرقعات نارية ، ثم أضاف مسئول أمنى بارز سببا أخطر ، وقال أن الذى انفجر آلاف الأطنان من مواد كيماوية شديدة الخطورة ، كانت محتجزة لست سنوات سبقت فى مستودع مصادرات ، من نوع “نيترات الأمونيوم” شديدة الانفجار ، وبرغم الإيضاح المضاف ، فلم يبد التفسير مقنعا للكافة ، خصوصا بعد امتداد النيران لتحرق أغلب منشآت الميناء الأكبر فى لبنان ، ونشر الخراب والتدمير الشامل فى دائرة قطرها 23 كيلو مترا من مركز الانفجار، وهول صعود “كعكة المشروم” الحمراء الغازية الزلزالية الحارقة فى سماء بيروت. بدت المشاهد المنقولة من “بيروت” كأنها من يوم القيامة ، نثار الزجاج والحطام يملأ الشوارع ، ورعب الناس مع خطوط الدم على الوجوه المذعورة ، ووقع المفاجأة كأنه الرعب الذرى الخاطف ، وتكهنات مستعجلة عن الفاعلين ، وتسييس تلقائى مال فيه خصوم “حزب الله” إلى اتهامه فورا ، وإطلاق روايات عن وجود مخزن لصواريخ “حزب الله” فى الميناء ، وهو ما بدا من شطحات الخيال الملتاث ، فمحيط ميناء بيروت منطقة سكنية مسيحية ، بينما معقل “حزب الله” فى مكان آخر ، ولا يعقل أن يحتفظ “حزب الله” بمخازن صواريخه بعيدا عن الضاحية الجنوبية ، وعن مناطق الجنوب اللبنانى بعامة ، وبرغم سخافة الاتهام ، فلن تتوقف الماكينات الإعلامية إياها ، وسوف تحاول صرف النظر عن المتهم الحقيقى الأكثر احتمالا ، عبر إغراق المتلقين فى فيضان قصص بلا آخر ، عن إهمال الحكومة التى توصف عندهم بحكومة “حزب الله” ، أو عن سيطرة رجال الحزب على المنافذ البرية والموانى البحرية ، وعن تهريب “حزب الله” لأسلحة ومتفجرات ومخدرات عبر ميناء بيروت ، والهدف من كل هذه الحواديت ظاهرا جدا ، هو التعمية على سياق الحوادث ، فقد وقع الانفجار بأثره الذرى على مقربة أيام من صدور حكم المحكمة الدولية الخاصة باغتيال رفيق الحريرى رئيس وزراء لبنان الأسبق ، الذى تاجل إلى 18 أغسطس الجارى ، والمتهمون في الدعوى خمسة من عناصر “حزب الله” ، جرى اغتيال أحدهم (مصطفى بدر الدين) فى غارة إسرائيلية على دمشق قبل سنوات ، وتبقت أسماء الآخرين لتواجه حكم الإدانة ، ومن دون مقدرة لأحد على ضبطهم لتنفيذ الحكم ، لا من الحكومة اللبنانية ولا من غيرها ، تماما كما جرى قبل ست سنوات ، حين صدر قرار الاتهام بحقهم ، وأبلغت الحكومة اللبنانية المحكمة المنعقدة بعيدا فى هولندا ، أنها عجزت عن ضبط وإحضار المتهمين المطلوبين ، واستمرت جلسات المحاكمة غيابيا ، وتكلفت مع تحرياتها نحو 600 مليون دولار ، ولا ينتظر لقراراتها مصيرا آخر خارج الأرشيف ، فحزب الله لن يسلم عناصره لأحد تحت أى ظروف ، وهو يعتقد أن المحاكمة مفبركة تماما ، وما من دليل اتهام مقنع بها ، سوى “قرائن ظرفية” مدعاة ، اعتمدت فى غالبها على تسجيلات لمكالمات هاتفية خلوية ، قيل أنها جرت فى تواريخ سبقت ولحقت جريمة اغتيال الحريرى الأب ومرافقيه فى 14 فبراير 2005 ، التى كانت حدثا سياسيا عاصفا ، جرى استثماره فى تجييش عاطفى واسع ، انتهى إلى إخراج قوات النظام السورى من لبنان ، وانقسام أحزاب الطوائف اللبنانية إلى جماعتين ، جماعة 8 مارس (آذار) بقيادة حزب الله ، وجماعة 14 مارس (آذار) بقيادة سعد الحريرى نجل الزعيم المغتال ، وإن لم يمنع الانقسام من مشاركة الطرفين فى حكومات مشتركة ، كانت غالبا برئاسة فؤاد السنيورة أو سعد الحريرى قيادى السنة الأبرز كالمعتاد فى توزيع الحكم الطائفى ، وكان الحريرى الإبن يستبعد أحيانا ، كما جرى فى حكومة نجيب ميقاتى (السنى طبعا) ، أو فى حكومة حسان دياب (السنى أيضا) ، القائمة من شهور وحتى إشعار آخر . والمعنى ببساطة ، أن الأجواء اللبنانية يسودها الاحتقان السياسى الداخلى اليوم ، إضافة لاحتقان اجتماعى غير مسبوق ، بلغ ذروته مع تدهور الاقتصاد إلى ما يقارب الإفلاس التام ، مع الحصار والاعتصار الذى نزل بأغلب اللبنانيين إلى مهاوى الفقر والبطالة ، وتدنى قيمة الليرة اللبنانية إلى قاع العدم ، وغلاء الأسعار الجنونى ، الذى تضاعف مع تبعات جائحة “كورونا” ، ومع توحش فساد أمراء الطوائف ، وإخفاق انتفاضة الشعب اللبنانى فى كنس الحكم الطائفى ، وتلاعب أطراف داخلية وخارجية بمشاعر غضب اللبنانيين العاديين ، وحرفها إلى مسارب طائفية ومذهبية ، تلعب غالبا على وتر التهييج المذهبى بين الشيعة والسنة بالذات ، مع التربص الحربى المباشر من قبل إسرائيل بحزب الله المتحالف مع إيران ، والتهديدات اليومية العلنية بتحطيم وحرق وتفجير مرافق وموانى لبنان كلها ، إن أقدم “حزب الله” على عمل ما ضد كيان الاغتصاب الإسرائيلى ، إضافة لحروب الحصار الأمريكية الشرسة ، وأوامر واشنطن لعواصم الخليج الغنية بالامتناع عن تقديم عون اقتصادى مؤثر ، وعرقلة مشاريع قروض للبنان من الدول الأوروبية أو من صندوق النقد الدولى ، خارج حدود النجدات الإنسانية الموقوتة مع دمار الانفجار، إلا بشرط لا يعوزه الإعلان والوضوح ، هو دفع اللبنانيين إلى إشعال الحرب ضد سلاح “حزب الله” ، ودفع الوضع اللبنانى كله إلى حرب أهلية طاحنة ، تبدو مواسمها الساخنة قد اقتربت عند من يخططون لها ، خصوصا مع قرب صدور أحكام محكمة الحريرى الدولية ، ومع “خض ورج” مشاعر الطوائف الثأرية ، واستئناف السجال حول حقيقة مقتل الحريرى الأب ، وإذكاء فتنة سنية ـ شيعية من وراء قميص دماء الحريرى ، وكان لا بد من تمهيد نارى للحرب المخطط لها ، أخذ صورة الانفجار المريع بفعل فاعل فى ميناء بيروت ، وإحاطته بغموض يبدو مقصودا ، يسهل توجيه لائحة اتهام إضافية ضمنية “لحزب الله” ، بينما تسارع إسرائيل بنفى مسئوليتها عن الانفجار ، وتذرف واشنطن “دموع التماسيح” على الضحايا ، وبهدف نشر غبار كثيف يعمى عن رؤية الحقيقة ، تماما كما جرى مع اغتيال الحريرى الأب قبل 15 سنة ، وتوجيه الاتهام سريعا للنظام السورى ، ثم سحب الاتهام الذى كان “سياسيا ” لا جنائيا باعتراف سعد الحريرى نفسه ، بعد تحقيق الهدف ، وإخراج القوات السورية من لبنان ، ثم إبراء محكمة الحريرى الدولية لساحة الضباط اللبنانيين الأربعة الكبار المعاونين للحكم السورى ، وإطلاق سراح الجنرالات جميل السيد وعلى الحاج وريمون عازار ومصطفى حمدان ، بعد قضاء أربعة سنوات ظلما فى السجن ، لينتقل مزاد الاتهام بعدها إلى عناصر من حزب الله ، وربما إلى أن يتحقق الهدف بإفناء سلاح حزب الله ، وهو ما يبدو مستحيل التحقق ، بدون تحطيم وتفجير لبنان كله . وبالجملة ، فلا يصح عزل انفجار بيروت الأخير عما يراد للبنان وبأهله ، فقد بدا الانفجار كلحن افتتاحى صاخب للحرب الأهلية اللبنانية المطلوبة اليوم ، وما من عاقل يستبعد دورا واردا بشدة لأصابع إسرائيلية أو أمريكية فى الانفجار المدمر ، فلبنان بطبعه ساحة مفتوحة لنشاط كل أجهزة مخابرات الدنيا ، وأوضاعه الداخلية ليست أكثر حصانة بالطبع من بلد مغلق كإيران ، التى تتوالى فيها الحرائق والانفجارات الغامضة على نحو متتابع ، وبما شمل مرافق ومنشآت حساسة بعضها نووى ، ولم تعلن إسرائيل مسئوليتها عن انفجارات إيران طبعا ، وإن أشارت صحف أمريكية إلى أدوار إسرائيلية ، تجرى غالبا بالتنسيق والتكامل مع المخابرات الأمريكية ، والطرفان أى أمريكا وإسرائيل ، يعتبران حربهما فى لبنان ضد “حزب الله” امتدادا للحرب ذاتها فى إيران ، والفاعل واحد بلا ريب فى الحالتين ، حتى لو كانت اليد التى أشعلت انفجار بيروت لبنانية بالجنسية، ومن داخل مستودع أطنان “نيترات الأمونيوم” ، وليس بالضرورة ضربة “درون” جوية أو صاروخية من إسرائيل مباشرة ، فالمطلوب ظاهر ، وهو إغراق اللبنانيين فى نار الجحيم ، وقد بدا الانفجار بطبيعته الكيماوية الملتهبة المتفجرة كأنه ضربة نووية ، ونسف أمان بيروت ، وخلق ركاما من الأشباح ، وبأسوأ مما كانت عليه بيروت زمن الحرب الأهلية القديمة ، وما من أمل فى تجنب الكوارث الأشنع المخطط لها ، سوى بوعى الشعب اللبنانى ، ومقدرته على إحباط مكائد الشياطين .
التعليقات مغلقة.