كتب جمال البدراوي ومحمد العبادي
شينخوا) غطت سحب الدخان سماء مدينة غزة مع استمرار القوات الإسرائيلية الاستعداد للتحرك نحو قلب المدينة، في أكبر عملية برية منذ بدء الحرب قبل أسابيع.
وسمع دوي الانفجارات في الأحياء الشمالية، فيما شوهدت الدبابات تعيد تمركزها تحت غطاء كثيف من القصف الجوي والمدفعي، ما أثار حالة من الخوف والارتباك بين آلاف السكان.
وفي ساعات الصباح، ألقى الجيش الإسرائيلي منشورات على سكان غزة دعاهم فيها إلى النزوح جنوبا، محذرا من أن المدينة “أصبحت منطقة قتال عنيفة”.
وأوضح في إعلان موجه للسكان أن مسارا مؤقتا سيفتح عبر شارع صلاح الدين لتسهيل الانتقال جنوبا، على أن يظل متاحا لمدة 48 ساعة تبدأ من ظهر الأربعاء وحتى ظهر الجمعة.
وطلب الجيش من السكان الالتزام بالشوارع المحددة باللون الأصفر على الخريطة واتباع تعليمات قواته.
— هروب من القصف المستمر
في حي الرمال المزدحم عادة، بدت الشوارع شبه خالية وواجهات المباني محطمة وشوارع مليئة بالركام، وسيارات وشاحنات ودواب تحمل عائلات بكاملها تحركت باتجاه الجنوب، بينما تصدرت أصوات صفارات الإسعاف المشهد.
وقال أحد الرجال وهو يحاول تهدئة عائلته “نحن خرجنا من غزة ونقترب من الجنوب، لا تخافوا”.
وأضاف محمود الزرد من مدينة غزة لوكالة أنباء ((شينخوا)) “لم نأخذ معنا سوى القليل من الأغراض والماء، فيما لم يتمكن آخرون من أخذ أي شيء… هربوا من القصف المستمر على محيطهم لعلهم ينجون من الموت”.
وفر الزرد، وهو أب لأربعة أطفال، من خيمته التي أقامها بجوار أنقاض منازل مدمرة في حي تل الهوى غرب غزة، بعد أن دمر الجيش الإسرائيلي منزله في حي الشجاعية قبل ستة أشهر.
ويقول: “اعتقدنا أن المناطق الغربية من المدينة ستكون آمنة عشنا أشهر فيها ولم نرغب أن ننزح، لكن منذ أسابيع، لم ننم ولو ثانية واحدة، فالقصف يقترب كل دقيقة، والدبابات باتت على بعد أمتار، لم يعد هناك مكان آمن”.
وتابع “نحن نموت في اليوم ألف مرة، توسلنا للجميع أن ينقذونا، لكن يبدو أن لا أحد يهتم بالشعب”.
— تحركات عسكرية واسعة
وأعلن الجيش الإسرائيلي أن قواته شرعت خلال الـ 24 ساعة الماضية في “عملية برية واسعة” ضمن ما أسماه “عربات جدعون 2”.
وقال إن الهدف هو “ضرب البنية التحتية لحماس داخل مدينة غزة”، مؤكدا أن العمليات ستتوسع تبعا لتقييم الميدان وتهيئة الظروف لمزيد من التقدم.
وفي تسجيل مصور نشره الجيش، ظهرت دبابات متمركزة وسط أنقاض المباني شمال غزة، في مشهد يعكس دخول المعركة مرحلة جديدة.
وقال شهود عيان إن القوات أطلقت النار بكثافة من دباباتها كتمهيد للتوغل، لكن تقدمها نحو مركز المدينة ما زال بطيئا، بحسب شهود.
من جهتها، اعتبرت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في بيان مكتوب أن ما يجري يمثل “فصلا جديدا من حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي الممنهج ضد الفلسطينيين في غزة”.
واتهمت إسرائيل بارتكاب “جرائم حرب بدعم أمريكي كامل”، داعية المجتمع الدولي إلى التدخل العاجل “لإجبار الاحتلال على وقف العدوان ورفع الحصار”.
وجاء في البيان: “إن هذه الجرائم التي تجاوزت كل الأعراف والقوانين الدولية، تجري تحت غطاء سياسي وعسكري مكشوف من الإدارة الأمريكية، التي تتحمل المسؤولية الكاملة عن نتائج هذا العدوان”.
الأوضاع الإنسانية تتدهور
في مستشفى الشفاء، أكبر منشآت القطاع الطبية، كان الطاقم يعمل بأقصى طاقته وسط تزايد أعداد الإصابات الوافدة، وأفاد أطباء بأن عشرات الحالات وصلت خلال ساعات قليلة، معظمها ناجمة عن القصف المدفعي.
وقال مدير عام وزارة الصحة في غزة، منير البرش، لوكالة أنباء ((شينخوا))، إن الطواقم الطبية تعمل في ظروف “بالغة القسوة، بلا كهرباء كافية، وبلا أدوية أساسية”، مؤكداً أنه إذا استمر الوضع الحالي “فإن النظام الصحي سينهار بالكامل”.
وأضاف البرش أن ما يعيشه القطاع منذ 23 شهراً يتمثل في “القتل الموثق بالصوت والصورة، والتصريحات العلنية لقادة الاحتلال الذين يتباهون بالإبادة والتطهير العرقي”، مشيرا إلى أن ذلك “لم يكن كافيا لتحريك ميزان العدالة الدولية”.
واعتبر أن هذا العجز يعكس “تقاعساً خطيراً، وكأن الحكم على نوايا الجريمة يحتاج إلى براهين إضافية رغم وضوحها في كل مشهد دموي”.
وأشار إلى أن الصور القادمة من غزة تختصر حجم الكارثة، قائلا: “الجثث تحت الركام، وصرخات الأطفال يطاردها الجوع والخوف، والمستشفيات تنهار على أطبائها ومرضاها”، وتساءل: “هل يحتاج العالم أكثر من ذلك ليثبت أن ما يجري هو إبادة جماعية مكتملة الأركان؟”.
وأوضح البرش أن عجز العدالة الدولية لا يمكن اعتباره “عجزاً بريئاً”، بل يمثل – بحسب وصفه – “تواطؤا بالصمت ومشاركة غير معلنة في الجريمة، وتركا لشعب أعزل يتجرع الموت والمعاناة يوما بعد يوم”.
وختم البرش بالقول إن ما يحدث في غزة اليوم يشكل “اختباراً أخلاقياً وقانونياً للعالم”، فإما أن يثبت من خلاله أن القانون الدولي “ما زال قادرا على حماية الإنسان”، أو أن يعترف بأنه “أصبح مجرد أوراق باردة لا تصمد أمام نار المصالح والسياسة”.
وأعلن الجيش الإسرائيلي أن ما يقارب 300 ألف فلسطيني نزحوا من شمال قطاع غزة إلى الجنوب، فيما قال المكتب الإعلامي الحكومي في بيان إن حوالي “مليون فلسطيني رفضوا النزوح وبقوا صامدين في مدينة غزة”.
في حي التفاح، روت أم أحمد عليوة (35 عاما) أنها أمضت ساعات مع أطفالها الثلاثة في قبو منزلها قبل أن تغادر، وقالت “كنا نسمع أصوات الدبابات والجدران تهتز مع كل انفجار، لم أعد قادرة على تهدئة أطفالي، فخرجنا بلا وجهة”.
وقال أحد المسعفين إنهم كثيرا ما يصلون إلى مواقع القصف ليجدوا “عائلات كاملة تحت الأنقاض”، الوقت يضيع بين القصف المتواصل وصعوبة الحركة، مضيفا أن “كل دقيقة تأخير قد تعني فقدان حياة”