عبد الحليم قنديل
قبل أيام من بدء حوار الفصائل الفلسطينية الذى كان مقررا ، وصل وفد كبير من قيادة حركة حماس برئاسة إسماعيل هنية إلى القاهرة ، ربما لإدارة حوار منفصل مع جهات مصرية معنية ، ينصرف غالبا لتفاصيل التفاصيل فى الجهد المصرى غير المسبوق لإعادة إعمار قطاع غزة ، وربما إلى صفقة تبادل أسرى جديدة ، قد تماثل فى حجمها صفقة “وفاء الأحرار” ، التى جرت قبل عشر سنوات ، وكان يحيى السنوار قائد حماس فى غزة اليوم ، أحد العائدين للحرية بمقتضى شروطها ، وكانت الوساطة المصرية فيها العنصر الأكثر فاعلية وحسما .
وخارج دائرة علاقات حماس بالسلطات المصرية ، تبدو القاهرة مهتمة أكثر بقضية “المصالحة الفلسطينية” القديمة الجديدة ، وقد بدأت كما هو معروف من نحو 14 سنة ، إثر انتخابات تشريعية فلسطينية ، جرت فى عام 2006 ، وتقدمت فيها حركة حماس على حركة فتح ، وتشكلت بعدها حكومة برئاسة هنية ، سرعان ما آلت إلى انفراط بسبب خلافات سياسية ، وتطور الموقف سريعا إلى الأسوأ ، ودارت اشتباكات دموية أواسط 2007 بين فتح وحماس ، انتهت بسيطرة “حماس” واقعيا على الوضع فى غزة ، التى تشكلت فيها سلطة موازية لسلطة الرئيس محمود عباس فى رام الله ، ومن وقتها ، انعقدت مئات الاجتماعات تحت عنوان المصالحة ، وكانت القاهرة هى القبلة الطبيعية لأهم هذه الاجتماعات ، التى دار أحدثها على جولتين فى فبراير ومارس من العام الجارى 2021 ، وضمت إلى جوار فتح وحماس كل الفصائل الفلسطينية كبيرها وصغيرها ، وصدرت عنها وثائق وبيانات فخيمة ، واتفاقات تفصيلية مسهبة ، وبجداول زمنية محددة ، نظمت عملية إجراء انتخابات ثلاثية متعاقبة ، تشمل البرلمان فالرئاسة ثم المجلس الوطنى لمنظمة التحرير الفلسطينية ، تعثرت كلها فى التنفيذ مع أول خطوة ، ومع قرار سلطة الرئيس عباس وقفها أو تعليقها ، وإلى حين سماح إسرائيل بإجراء انتخابات فى القدس كما قيل ، وهو ما أعاد الأوضاع إلى نقطة الصفر ذاتها ، وإلى اتصال الانقسام ذاته ، مع انشقاقات مضافة فى حركة فتح نفسها ، وبما تعذر معه التوصل إلى اتفاق مبدئى سريع بين فتح وحماس على ملامح عملية لإعادة ترتيب البيت الفلسطينى ، مما قد يدفع القاهرة لبعض التريث فى الخطى قبل فتح الحوارات العامة .
والمثير فى الوضع الفلسطينى الراهن ، أننا بصدد مفارقة تبدو صادمة ، بين وحدة الشعب الفلسطينى الكفاحية ، التى ظهرت بأكمل وأجلى معانيها مع قيامة القدس الأخيرة ، التى أعادت القضية إلى صباها وفتوتها وحرارتها وشمولها الأول ، بينما تبدو الأوضاع القيادية الفلسطينية فى مكان آخر تماما ، من حيث الانقسام والتنازع وتبادل الاتهامات ، ومضغ الهواء الفاسد المتقادم ، والصراع حول سلطة افتراضية ، أو “سلطة بلديات” كما كان يصفها الفلسطينى العظيم الراحل د. إدوارد سعيد ، فهى لا تزيد عن كونها سلطة حكم ذاتى محدود الصلاحيات بمقتضى “اتفاق أوسلو” سئ الذكر، الذى لم يلتزم به أبدا جيش الاحتلال الإسرائيلى ، ولم ينسحب من “غزة” عام 2005 ، إلا تحت ضغط رصاص الانتفاضة الفلسطينية الثانية ، بينما تدهورت الأوضاع أكثر فى الضفة الغربية ، التى يطلق عليها الاحتلال تسمية “يهودا والسامرة ” التوراتية ، ومنحته توابع “أوسلو” المهينة ، بما فيها “التنسيق الأمنى” لمطاردة خلايا الفدائيين ، فسحة هدوء طويلة ، امتدت لنحو ثلاثين سنة إلى اليوم ، توحش فيها الاستيطان والتهويد ، وبأضعاف أضعاف ما كان يجرى قبلها ، وزحف حضور الاحتلال اليومى المباشر من مناطق “ب” و”ج” فى الضفة الغربية ، إلى مناطق “أ” ، التى يفترض أنها تابعة للسلطة الفلسطينية ، وهو ما جعل الرئيس عباس نفسه يسخر من وضع السلطة ، ويتبرم من الحالة “الوظيفية” فى خدمة الاحتلال ، التى أرادتها إسرائيل ، ويعلن مرارا فى السنوات الأخيرة ، وعبر اجتماعات عديدة للقيادة الفلسطينية بمختلف هيئاتها ، أنه يتجه لإلغاء الالتزام باتفاقات أوسلو وأخواتها ، ولم يترجم الإعلان للأسف إلى واقع ملموس ، بل جرى العدول عن الإعلان نفسه ، وبما زاد من دواعى الانقسام ، برغم أن حركة حماس نفسها ، قبلت عمليا الالتزام بمقتضيات أوسلو ، منذ قررت المشاركة فى انتخابات مؤسسات السلطة ، وهو ما قد يتطلب اليوم اتفاقا جامعا على الخروج وإعلان التبرؤ من التزامات أوسلو ، فقد صارت قصة أوسلو كلها تحت الأقدام ، بعد القيامة الفلسطينية الأخيرة ، واستعادة وحدة كفاح الشعب الفلسطينى ، من القدس إلى غزة والضفة الغربية ، وإلى مدن وقرى الداخل الفلسطينى المحتل فى نكبة 1948 ، وإلى التجمعات الفلسطينية على خرائط اللجوء والشتات ، التى لعبت الدور القيادى الباهر فى غضبة أحرار العالم المساندة للحق الفلسطينى .
وقد لا تكون العودة إلى فكرة الانتخابات حلا ، بل أقرب إلى مصيدة تفاقم التخبط والانقسامات ، فلا قيمة وطنية جامعة لإجراء انتخابات تحت الاحتلال ، والبديل ظاهر ومعروف فى كل تجارب التحرير الوطنى ، وفى تجربة الشعب الفلسطينى نفسه ، الذى بلور هويته الوطنية الجامعة فى تجربة منظمة التحرير الفلسطينية ، وكانت القيادة الفلسطينية قبلها مفرقة ممزقة ، واستمرت التجربة صامدة على مدى نحو ثلاثة عقود ، من أواسط ستينيات القرن العشرين إلى قرب أواسط التسعينيات ، ثم زحفت عليها أمراض التآكل والضمور بعد اتفاق “أوسلو” وسلطاتها ، وصارت أشبه بورقة ميتة معلقة على جدار باهت ، وفى كل حوارات الفصائل الفلسطينية التى سبقت ، وأبرزها حوارات القاهرة ، كان الاتفاق الورقى يبدو ظاهرا على استعادة حيوية منظمة التحرير ، وضم حركتى “حماس” و”الجهاد الإسلامى” إليها ، وجعل عصمة القيادة فى يدها ، لا فى الأيادى المفرقة لكيانات وسلطات مابعد أوسلو ، ونتصور أن حوار القاهرة المقرر ، عليه أن يخرج من غابة التفاصيل المسكونة بالشياطين ، وأن ينصرف إلى نقطة واحدة تتقدم ما عداها ، هى إحياء منظمة التحرير على نحو جامع ، مع التخلى الطوعى لقيادات هرمت على كراسيها ، وبغير جدال كثير على توزيع القسمة القيادية ، ولو باللجوء إلى “مثالثة” المقاعد بين فتح وحماس والفصائل الأخرى مع المستقلين ، وإلى أن تتهيأ ظروف إجراء انتخابات جامعة للمجلس الوطنى ، الذى هو برلمان منظمة التحرير ، ولو حدث شئ من ذلك فى اجتماعات القاهرة الجديدة والمقبلة ، لكان ذلك إنجازا ينتظره الشعب الفلسطينى ، الذى يواصل بطولاته وتضحياته على كل الأراضى الفلسطينية من النهر إلى البحر ، ويمكن لمنظمة التحرير الموسعة ، مع تجديد صفتها كممثل شرعى وحيد للشعب الفلسطينى ، أن تتولى وحدها مهمة تشكيل قيادة وطنية موحدة للعمل الميدانى الهادف لإنهاك الاحتلال ، تضبط إيقاع الهبات الشعبية ونوبات المقاومة المسلحة ، وتنشئ ما يلزم من إدارات رعاية الشئون اليومية الحياتية للشعب الفلسطينى ، وتتولى التنسيق مع الهيئات القيادية للفلسطينيين فى أراضى 1948 ، وتردع اتجاهات خطرة فى الداخل الفلسطينى ، تعاكس الروح الجديدة الموحدة لقيامة الشعب الفلسطينى ، وتحاول تذويب الفلسطينيين فى حمض كبريتيك الاحتلال ، وتعود إلى فكرة “أسرلة” الفلسطينيين من جديد ، على نحو ما يفعل حزب منصور عباس الإخوانى ، الذى يقدم خدمة مشينة لحكومات الكيان الصهيونى المتعثرة ، ويتسابق إلى المشاركة فيها ، ويعرض خدماته على نتنياهو ومنافسيه فى ذات الوقت ، وعلى طريقة ترويج ملصق “كلنا معك يا أبو يائير” ، فى إشارة محبة عائلية لنتنياهو ونجله يائير ، عشية الانتخابات الإسرائيلية الأخيرة ، ثم القفز إلى مراكب منافسى نتنياهو ، من نوع “بينيت” و”ساعر” و”ليبرمان” و”لابيد” فى الحكومة الإسرائيلية المحتملة ، وكلهم أسوأ من نتنياهو فى إنكار حقوق الشعب الفلسطينى ، وإنكار وجوده القومى المستقل من أصله ، ودعم الاستيطان اليهودى فى الضفة والقدس ، إضافة لخطايا الخضوع المباشر لسيطرة الحركة الصهيونية العنصرية ، وتمزيق منصور عباس لوحدة “القائمة العربية المشركة” ، التى كانت حصلت على 15 مقعدا فى انتخابات الكنيست قبل الأخيرة ، وتراجع نصيبها بعد التمزق فى آخر انتخابات إلى ستة مقاعد لا غير ، يداوم أصحابها على رفض الاحتلال والعنصرية و”الأبارتايد” الإسرائيلى ، ويتعرضون لمطاردات واتهامات بخيانة إسرائيل ، فيما يحظى أمثال منصور عباس بمحبة الإسرائيليين وأحزابهم ، فهو لا يطلب سوى منافع صغيرة له ولنفوذ جماعته غالبا ، مقابل التسليم بشرعية أبدية زائفة لكيان وتحكم العنصرية الصهيونية .
نعم ، رد اعتبار منظمة التحرير هو واجب الوقت الفلسطينى ، وليس العودة للدوران فى حلقات مفرغة ، والانسياق وراء اقتراحات تأليف “حكومة وفاق وطنى” لترميم “أوسلو” ، لن تدوم طويلا ، فنقطة البدء الصحيحة فيما نظن ، هى الخروج من “أوسلو” ومصائد التكالب على حكوماتها الموهومة ، والاتفاق على برنامج عمل سياسى وميدانى وعربى وعالمى ، تقوده منظمة تحرير جامعة ، تواكب الحيوية المستعادة لكفاح الشعب الفلسطينى المنتصر بإذن الله .
التعليقات مغلقة.