منذ سويعات قليلة وفي مشهد مهيب من تلك المشاهد التي منها نستقي جمال وجلال دولة التلاوة في مصر الأزهر ، فتلك الجموع الهادرة التي خرجت من قرية شبرا باص محافظة المنوفية لتودع الشيخ مصطفى علي البنا أحد أعمدة دولة التلاوة المصرية وآخر عناقيد العلم والتلاوة في عائلة البنا القرآنية والتي ذاع صيتها وفاق عبيرها وأصبحت علامة بارزة في دولة التلاوة المصرية التي ليس لها نظير في العالم كله، ولا عجب في ذلك فالشيخ مصطفي على البنا الشقيق الأصغر للشيخ محمود على البنا أحد عظماء دولة التلاوة وأحد الخمسة الكبار في إذاعة القرآن الكريم والذي تلقت الأمة المصرية والعربية تلاوته وختمته بالقبول فلا يمر شهر إلا والقرآن بصوت الشيخ محمود البنا – رحمه الله – يسري في بيوت المصريين وعبر أثير إذاعة القرآن الكريم كما يسري الماء في الورد.
أما عن الفقيد الراحل الشيخ مصطفى فكان فريد عصره ووحيد مصره الذي كان لا يحب الظهور الذي يقصم الظهور فرغم شهرة أخيه الأكبر الذي جابت الآفاق والتي لا تنقص من قدره شيئًا فكل واحد منا أدرى بحاله وما أقامه الله فيه، ورغم أن شقيقته الأخرة هي زوجة أمير مدرسة الابتهال المصرية وعمدتها الشيخ نصر الدين طوبار – رحمه الله – إلا أن الشيخ مصطفي كان من أهل الله الذي كتن حاله استجابة لنداء ابن عطاء الله السكندري في حكمه ( ضع نفسك في أرض الخمول ) فكان رضى الله عنه خاملا متواضعاً زاهداً راضياً خادما للقرآن الكريم وأهله يأتي إليه طلاب العلم وحفظة القرآن من كل بقاع مصر وغيرها ليشهدوا منافع لهم في صورة مسألة في علم التجويد أو خلاف بين علماء القراءات أو نطق لمخارج الحروف بصورة وطريقة معينة لم يسبق إليها قبل الشيخ مصطفى أحد أو معضلة علمية تحتاج إلى تدخل جراح ليزيل اللبس ويرفع الحجب لتكون النتيجة 9أن يخرج القرآن الكريم منه غضا طريا عزبا ذللاً كأنفاس الزهر في فجر الربيع مع حال عجيب للرجل من الرحمة بتلاميذه والرقة مع طلابه مع الابتسامة الجزلة التي تفيض منه فتنشر الفرح والسرور مع نظرة التربية الصوفية الصادقة التي تجعل القوب صافية متأهبة لنفحات هذا الولي الصالح ممزوجة بعبير وعبق الآيات البينات من الذكر الحكيم في ممشاهد متكررة بصورة يومية ليصير بيت البنا جامعة مصغرة من علوم القرآن الكريم منتسباً لعائلة جذورها ممتدة في عبق التاريخ إلى الإمام الحسين بن على رضي الله عنه وعن أبيه فهو وشقيقه وشقيقته من سلالة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمقامه رضي الله عنه من حيث أقامه الله عز وجل فهو قرآناً ميمشي على الأرض ، وتغلغلت جينات القرآن في داخله فملأ القرآن كيانه كله فمن تمام النعمة عليه رضي الله عنه لإخلاصه أن رزقه الله الجوار الشريف فكان يُقرئ القرآن الكريم في المسجد النبوي الأنور بجوار الروضة الشريفة لسنوات وسنوات فكان أحد ممثلي دولة القرآن المصرية في المملكة السعودية وتعددت بين يديه الجنسيات اللهجات واللكنات فسبحان من شوق القلوب لحلاوة الآيات ، وكان حفظه للقرآن الكريم أعجوبة فريدة فكان يحفظه عن ظهر قلب ، فلذلك كان عضواً دائما في المسابقات العالمية والدولية ممثلاً للأزهر الشريف والدولة المصرية ، وكان فريدا في الأسئلة التي تلقي ، فكان ضبطه لمتشابهات القرآن ضبطا ليس له نظير حتى بلغ من شهرته في المسابقات القرآنية حتى أن تلامذته وطلابه قاموا بجمع مجلد في المتشابهات القرآنية التي كان يطرحها الشيخ مصطفى على المتسابقين مما يدل على عظيم نفحة المولى عز وجل عليه من خلال هذا الباب الذي لا يتقنه إلا الأكابر من المتقنين فبزغ نجمه وعلا فضله فخرجت المواهب الساطعة والنوادر الباهرة من تحت يدية بعد إجازة الشيخ لهم في اختبارات المسابقات القرآنية تجوب الأرض نشرا لقرآن مع خالص التكريم لهم من القادة والرؤساء والزعماء ، وفي نهاية عمره عاني من مرض الكبد ومع شدة مرضه كان حريصا على إتمام رسالته على أكمل وجه وأتمه فكان لا يرد أحد من طلابه بل كان لا ينقطع القرآن لحظة واحدة حتى في لحظات احتضاره يرتل ويرتل ويجود ويتنغم بالقرآن الكريم وكأنه يري رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له { أقرأ ورتل وارتقي فإن منزلتك عند أخر آية كنت تقرأها} ، فكانت حسن الخاتمة مع شهادة الجموع الهادرة له من أهل قريته وتلاميذه ، فلا نقول لك يا سيدي وداعا فما زال ذكرك حاصرا ، ولا زال عبير كتاب الله حاضرا في قلوب تلامذتك ومحبيك ، فإن غادرت بجسدك فإن جدران المسجد النبوي تشهد لك ، وإن صنعتك من أهل القرآن لازالت حاضرة تنشر عبق الآيات البينات وتجعل القرآن ربيعا للقوب ، ولا عجب إن وجدت صوته الندي يشدوا في كل جنبات وبيوت قريته مع لمحات الحزن على كل الوجوه لفقدك جسدياً وليس لفقدك روحا ومعني ، فلا نقول وداعاً إلي اللقاء ولا أزيد إلا أن أتمثل بقول القائل :
فيا حبذا الأحياء ما دمت فيهم …….. و يا حبذا الأموات ما ضمك القبر
وهذا هو حالي معك يا سيدي :
أتيت عقلي لأستشفي بفطنته مما أصاب فلم بسعف بترياق
فجئت قلبي والأشجان تعصره …… لأقتبس الشجو من أعماق أعماقي
التعليقات مغلقة.