كتبت/هند-جاد
وقف صاحب أحد المطاعم الراقية وسط صالة الطعام شبه الفارغة في وقت الذروة.
لم يكن الحال كذلك أبداً إلى أن تغير تدريجياً منذ بضعة أيام؛ الزبائن تنحسر عن المطعم بلا سببٍ واضح! عاد صاحب المطعم إلى مكتبه داخل المطعم يفكر في القيام بأي إجراءٍ يجذب به الزبائن مرةً أخرى. “سوف أقدم وجباتٍ مجانيةٍ للمحتاجين” عبارةٌ قالها في نفسه ثم توقف عن التفكير عندما تذكر الوجبات المجانية، لينادي على كبير الطهاة بالمطعم،
فسأله: “هل حضرت «أم أمل» اليوم لتأخذ الطعام؟”، ردَّ: “لا لم تأتِ، كما لم تأتِ في الأيام السابقة أيضاً”،
فسأله: “منذ متى؟”، فأجابه: “منذ عدة أيامٍ حين كان المطعم مزدحماً، وأقبلتْ لتأخذ الطعام كعادتها،
لكنك حينها صرختَ في وجهها وقلتَ لها أن هذا ليس الوقت المناسب للتسول!”. بُهت وجه صاحب المطعم وهو يتذكر تلك الواقعة. كانت تلك سيدةٌ مسنةٌ ترمّلت وهي في الأربعين
، فاضطرت للعمل حتى أعياها المرض فاكتفت بجلستها لتبيع الخضروات في السوق تتكسب قليلاً من المال لا يكاد يسد رمق أطفالها الثلاثة. مرَّ بها صاحب المطعم في أحد الأيام فدعته أن يشتري منها بعض الخضروات،
فجلس أمامها بعد أن جذبته طيبة وجهها الصبوح المبتسم، وحكت له قصتها. منذ ذلك الحين طلب منها أن تمر يومياً على مطعمه ليعطيها بعض الطعام لها ولأطفالها، وظلت على ذلك شهوراً طويلةً دون أن تنقطع يوماً واحداً.
تذكر صاحب المطعم أنه منذ ذلك الوقت وأعمال مطعمه في رواجٍ ورخاءٍ، تذكر أيضاً دعوات «أم أمل» الصادقة وعيونها الشاكرة وهي تأخذ الطعام لأطفالها. خرج صاحب المطعم من مطعمه قاصداً المكان الذي كانت تجلس فيه «أم أمل» في السوق، ليجد المكان مشغولاً بسيدةٍ أخرى،
فاقترب منها وسألها: “هل تعرفين «أم أمل» التي كانت تبيع الخضروات هنا في السوق؟”، ردت السيدة وهي ترفع يديها داعيةً: “اللهم خفف عنها واشفها يا رب”،
فزع صاحب المطعم وسألها: “ماذا حدث لها؟”، ردت السيدة: “لقد عادت إلى منزلها في إحدى الليالي لا تحمل عشاءً لأطفالها كما اعتادت، فأصيبت بحزنٍ شديدٍ أفقدها وعيها وسقطت”. كاد قلب صاحب المطعم أن ينخلع من مكانه؛ فهو يعرف أنه السبب فيما حدث، فعاد وسأل السيدة: “هل تعرفين أين تسكن؟”،
ردت السيدة بالإيجاب، ووصفت له مكان المنزل؛ فرجع مسرعاً إلى المطعم وأمر كبير الطهاة بتجهيز طلبٍ من أشهى مأكولات المطعم ليحمله ويذهب به إلى ذلك العنوان.
طرق الباب فسمع صوت طفلةٍ تسأل من قبل أن يجيبها: “أنا صاحب المطعم ..”، لم يُكمل كلماته لينفتح الباب ويرى طفلةً بعمر ابنته على وجهها ابتسامةٌ صافيةٌ، ترحب به وتدعوه للدخول.
دخل فوجد «أم أمل» تجلس على فراشٍ، تتطلع في عينيه بنظراتٍ ملأتها لوماً وعتاباً، وصبيين يجلسان بجوارها، عيونهما معلقةٌ باللفافة التي يحملها بعد أن ملأت روائح الطعام الغرفة. اقترب منها؛ فابتسمت وأشارت إليه ليجلس على طرف الفراش، فجلس وتطلع في وجهها الذي أشرق بابتسامة رضىً وترحيبٍ استقبلها باستحياءٍ قبل أن يبادرها بقوله: “أردتُ أن أتناول طعامي معكم، فهل تسمحين لي أن نتشارك الطعام؟”
، هربت دمعةٌ من مقلتها كادت تحرق وجدانه الذي يئن من الإحساس بالذنب، لترد عنها ابنتها «أمل»: “أمي لا تتكلم منذ عدة أيام، ولا تكف عن البكاء”. أحس بغُصةٍ في صدره قبل أن يحاول تصنع المرح وهو يفتح لفافات الطعام
ويهتف: “دعونا إذاً نُطعمها ونحاول أن نسعدها”. بدأوا في تناول الطعام و«أمل» تطعم أمها، وحين جاء وقت الانصراف وقف أمام «أم أمل» يستجديها: “سيدتي، لا أملك أن أستعيد كلمةً خرجت من لساني دون وعيٍ مني، ولكني أملك الشجاعة للاعتراف بالخطأ وطلب المغفرة، وأعرف أنك كبيرة القلب لن تبخلي عليّ بالصفح”، أشاحت بوجهها عنه وعادت تبكي بكاءً صامتاً، ليقف لثوانٍ طويلةٍ منتظراً عفوها دون جدوى، ليطرق رأسه حزناً ويلتفت ناحية الباب مغادراً، قبل أن يتوقف فجأةً على صوتها وهي تنطق بضعف: “أشكرك، ربنا يسعدك ويسترك وينور طريقك”. كلماتٌ بسيطةٌ تساوي عنده الدنيا وما فيها، وعدهم أنه سوف يعودهم حتى تتعافى أمهم، ثم غادرهم بعد أن أعطاهم قدراً من المال. عرج مرةً أخرى على المطعم،
وما إن وصل هناك حتى هاله ما وجد؛ زحاماً شديداً بصالة الطعام، وزبائن على قائمة الانتظار، والعاملين كخلية النحل لا يكادون يستطيعون تلبية كافة الطلبات.
اندفع إلى داخل المطعم، وما أن قابل كبير الطهاة حتى استفسر منه عن سبب ما حدث فأخبره أن أشهر ناقد طعامٍ في البلد زار المطعم، وطلب عدة أنواعٍ من الأطعمة، وصور تجربته مباشرةً على صفحته الخاصة على فيس بوك، ووصف تجربته بأنها رائعةٌ؛ مما دفع الزبائن للحضور،
كان ذلك منذ ساعتين تقريباً، نظر صاحب المطعم في ساعته وعرف أنه نفس توقيت وصوله عند «أم أمل»،
ليتعلم الدرس؛ ويعرف أن (المال مال الله) هو الرزاق العاطي يُعطيِنا من كرمه لنعطي نحن عباده، وأن الكلمة تُحيي وتميت، وأن لا مال ينقص من صدقةٍ، وأن الفقير هو من يتصدق على الغني حين يرضى ويقبل عطفه وإحسانه.
أحبتي في الله .. إن الله سبحانه وتعالى جعل من نوافل الطاعات طريقاً لنيل رضاه، ومن أعظم تلك النوافل الصدقة؛
يقول الله تعالى: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾،
ويقول: ﴿وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾.
ويقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: [مَا نَقَصَ مَالُ عَبْدٍ مِنْ صَدَقَةٍ].
أحبتي .. نخطيءُ إن ظننا أن الفقير هو الذي يحتاج إلينا، ونخطيءُ أكثر إذا سعى إلينا الفقير فأعرضنا عنه. ابحثوا أحبتي عن الفقراء والمساكين واسعوْا إليهم وتوددوا لهم حتى يقبلوا منكم هداياكم، فهم مفاتيح أبواب الرزق والسعادة وراحة البال في الدنيا، وهم أصحاب بابٍ من أبواب الجنة اسمه باب الصدقة.
أسعدكم الله في الدارين
التعليقات مغلقة.