بقلم:
د. محمد المنشاوي..
فى شهر رجب من سنة ستين هجرية بُويع يزيد بالخلافة بعد وفاة أبيه معاوية بن أبى سفيان ، فلما تولى كان همهُ الأكبر أن يحصل على بيعة المجموعة التى رفضت من قبل مبايعة أبيه معاوية وعلى رأسها الحسين إبن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فكتب يزيد إلى الوليد بن عتبه بن أبى سفيان أمير المدينة أن يذهب إلى الحسين ليقتنص منه “كلمة” البيعة بالخلافة ليزيد بن معاوية ، لاسيما بعد مبايعة الناس له ..
فدار ذلك الحوار التاريخى بين الوليد حاكم المدينة والإمام الحسين بن على بن أبى طالب ، عندما طلب الوليد من الحسين أن يبايع يزيد بالخلافة ..
قال الوليد مخاطبًا الحسين : نحن لا نطلب إلا كلمة ، فلتقل : “بايعت” وإذهب بسلام لجموع الفقراء ، فلتقلها وإنصرف يا إبن رسول الله حقنًا للدماء ، فلتقلها ، آه ما أيسرها إن هى إلا كلمة !! ..
رد الحسين (منتفضًا) كبُرت كلمةً ، وهل البيعة إلا كلمة ؟ ، ما دين المرء سوى كلمة ، ما شرف الرجل سوى كلمة …
فرد عليه بن مروان بن عبد الملك (بِغِلظةً) وكان حاضرًا للقاء : فقل الكلمة وإذهب عنا …
فجاء رد الحسين : أتعرف ما معنى الكلمة ؟ مفتاح الجنة فى كلمة ، ودخول النار على كلمة ، وقضاء الله هو الكلمة ، الكلمة لو تعرف حرمة زاد مذخور ، الكلمة نور وبعض الكلمات قبور ، بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم بها النبل البشري ، الكلمة فرقان بين نبى وبغى ، بالكلمة تنكشف الغمة ، الكلمة نور ودليل تتبعها الأمة ، عيسى ما كان سوى كلمة أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين ، فساروا يهدون العالم ، الكلمة زلزلت الظالم ، الكلمة حصن الحرية ، إن الكلمة مسئولية ، إن الرجل هو الكلمة ، شرف الرجل هو الكلمة ، لا رد لدى لمن لا يعرف معنى الكلمة..
فرد الوليد : قد بايع كل الناس يزيد إلا أنت فبايعه ..
فرد الحسين: ولو وضعوا بيدى الشمس ..
فقال بن مروان موجهًا كلامه للوليد : أقتله ، أقتله بقول الله تعالى ، إبحث عن آيه ، أقتله بقول رسول الله فيمن خرج عن الإجماع ..
فرد الحسين : أتقتلنى يا إبن الزرقاء (نسبة إلى بنى أمية) بقولة جدى فيمن نافق ؟ أتزيف فى كلمات رسول الله أمامى يا أحمق ؟ أتقتلنى يا شر الخلق ؟ أتؤول فى كلمات الله لتجعلها سوط عذاب تشرعه فوق امرىء صدق ؟..
لقد وصفت الكلمات التاريخية الذهبية للحسين على نحو دقيق معنى ومدلول وخطورة “الكلمة” ، ماذا تعنى كيف تكون ، الى أين تؤدى وإلى أين تؤول ، كيف تشكل ذاك العالم ، كيف تُفرق بين العدل وبين الظالم ، كيف تقيم الحق وكيف يكون الإنسان الصارم ..
فقد روى الطبراني عن حديث أسود بن أصرم المحاربى ، قال : قلت يا رسول الله أوصني ، قال : ألك لسان ؟ قلت : وما لى أملك إن لم يكن لى لسانى ؟ قال : ألك يد ؟ قلت : وما لى أملك إن لم يكن لى يدى ؟ قال : لا تقل إلا بمعروف ولا تبسط يدك إلا بخير..
وفى حديث سليمان بن سحيم عن أمه قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن الرجل ليدنو من الجنة حتى يكون بينها وبينه ذراع حتى ينطق بكلمة فيتباعد عنها أبعد من صنعاء ” ..
وعن الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله : ما ندمت على سكوتى مرة ، لكنى ندمت على الكلام مرارًا ..
فكم من كلمة ، فصلت بين الحق والباطل وكما قال الله تعالى : يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت فى الحياة الدنيا وفى الآخرة “ ..
والقرآن ما هو إلا كلام الله ، ودعوة الرسل والأنبياء بكلمة ، ودخولك الإسلام أيها الإنسان بكلمة وخروجك من الإسلام بكلمة ، والزواج بكلمة ، والطلاق كلمة والإعتذار كلمة والعفو كلمة ، والتسبيح كلمة والحمد كلمة ، والحياة كلمة ، وجرح مشاعر الناس كلمة ..
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : وهل يكب الناس على وجوههم فى النار إلا حصائد ألسنتهم ” ..
وقد روى عن الإمام على بن أبى طالب رضي الله عنه أنه قال : ضرب اللسان أشد من ضرب السِنان ، وسُنة اللئام قبح الكلام ، وصمت الجاهل ستره ، ورُب كلمة سلبت نعمه ، ورُب لغوٍ يجلب شرًا…
فليتدبر كل إنسان منا معنى ومدلول الكلمة ، كل قاضي ، كل مسئول ، كل عالم ، كل مُعلم ، كل كاتب ، كل أديب ، كل إعلامى ، كل حاكم ، كل فنان ، كل رجل دين ، كل رجل قانون ، كل شاعر ، كل مؤلف ، ليستشعروا أهمية وخطورة ما ينطق أو يكتب من كلمة “يا أيها الذين آمنوا إتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم “..
فعلينا أن نسعى من أجل الكلمة لتكون “الكلمة” ، ونجعلها أسن من نِصال السيوف فى خدمة صوت الحق الصادع ، ولنصنع بها أجيالًا شرفاء بدلًا من صِنف طوابير العملاء ، ولندفع بها كل بلاء يأتى من قِبل الأعداء ..
وللكلمة قدسية ، وقدسيتها مقياس تقدم الحضارة الإنسانية ورقيها وتقدمها ، فعندما تستباح الكلمة تتوحش الإنسانية وتنهار الدول والممالك ، وتعانى البشرية ، فأعظم قادة العالم نجحوا بالكلمة ، وسقطوا أيضا بالكلمة ، فالكلمة طوق نجاة لمن ينطقها إن أدرك قوتها وسلطانها وأحسن إستخدامها ، وراعى حرمتها وقدسية مسئوليتها ..
التعليقات مغلقة.