من لم يرى القاهرة لم يرى الدنيا فارضها تبر ونيلها سحر ونسائها حوارى الجنة فى بريق عيونهن ودورها قصور ونسيمها عليل كعطر الندى ينعش القلب ، لم تستطيع معاول التنظيم الغشوم ولا اكداس العمارات الشاهقة ولا غوائل الشوارع الطارئة ولا احياء حجارة الدمينو تنبت كالفطر وتتضخم كالسرطان شقا الى القلب كالطعنة النجلاء غلافا فوق غلاف ولاظل قبعة قميئة مستعارة وضعتها على الراس يدا عمياء متلهفة الى التقليد ، لم يستطيع شى من هذا كله ان يمس طابعها الاصيل وجلاها المكنون هبة لها من حضارة الشرق ونفحة من نسماته كلاهما خرج عن متناول الزمن 0
نعم .. لم تستطيع الاسطح المتعالية يوم ان تحجب ماذنها العديدة باقية هى ناجية بشموخها ، ولا الضجة الهائلة التى اندلفت عليها ان تخنق ضراعات ماذنها التى يخشع لها القلب وتطرب لها الاذان عند مولد كل فجر.. جدرانها العتيقة يتراكم عليها التاريخ اية فى فن العمارة فى ذروة الصدق تصون داخلها امثلة رائعة الجمال وتحكى فى صمت قصة الاف الفنانين بناة الحضارة عملوا فى ورع وهم متطهرون ثم مضوا لايعرف اسمائهم ولا يذكرهم احد ، واسواق لاتزال متشبسة بامكنتها كان لها جذورا ضاربة الى الاعماق ..هيهات ان تنقصف اوان تذوى شاخت ولكنها متشحة باطياف من وسامة شبابها وزينة عرسها .
هى القاهرة بوابة الشرق بسحرة وغموضة وقبلة الرحالة والمستشرقين حركت فى نفوسهم الحنين المضرم الى عبق الصحارى وصخب الزحام وواجهات الحوانيت ودفء الحياة وروائح التوابل والثياب المزركشة واثار الماضى العريق واساطير الف ليلة وليلة ، ليصفوا لنا القاهرة وليرسموا لنا احيائها فى مشاهد تنبض بالحياة ، فلقد شكلت القاهرة زاوية الدفء والحلم الجميل فى ذاكرة الكثيرين فكانت رحلة واحدة كافية للبعض منهم ليختزن تصورات ثرية عن قاهرة الشرق وفنون عمارتها المبتكرة وكنوز الماضى التى شكلت طوقا بديع من الحضارات التى تالقت على صدر التاريخ فتبارو فى تسجيل مشاهدتهم لواقع القاهرة واثارها واسواقها وشوارعها وصخب الحياة الشعبية بعيدا عن تداعيات العالم السحرى لقصص الف ليلة وليلة .
قليل من المدن التى يمكن ا نثير خيال المراء لدى سماع اسمها ان هذا الاسم يبعث فى النفس صورا وخيالات بطولية رائعة ومفزعة وقاسية هناك نرى الاهرامات تلك الصروح الهائلة تعبر عن فكرة الخلود فى عالم سماوى لاعن نهاية الحياة التى توحى بها المقابر الاوروبية ، وتبدو لنا قلعتها كقائد حربى مختال يشرف على جنودة ، فترسم لنا صور المماليك بعمائمهم وثيابهم الفضفاضة وهم منطلقون على صهوة جيادهم وفى ايديهم سيوفهم مشرعة ينعكس عليها ضوء الشمس ، وقد يثير الاسم صورة مدينة حديثة تزدحم بالسيارات وتخترق سمائها الطائرات ولكن على تعدد تلك الصور وتباينها تشترك جميعها فى كونها صورا جذابة تضاعف من روعة تلك المدينة العتيقة .
ولكن اذا ما تسالنا ما هو السحر المختص لمدينة القاهرة ؟ لوجدنا ان الاجابة الدقيقة عسيرة ! لذا فكل ما يمكن قولة هو ان ثراث المدينة لايمثل فقط الابنية العتيقة التى شيدت على مدار خمسة الاف عام ولكن الشواهد الدالة على حضارات عدة متباينة شكل كلا منها وجه المدينة باسلوبه الخاص وخلف لنا اثار تشهد بذلك .
فهناك جامع سامق يدعو المارة الى الاحتماء فى ظلال ايوانته الرطبة ، وهناك كنيسة قبطية عتيقة تزدان بصور القديسين الرصينة، والى جانب ذلك تقوم عمائر حديثة الطراز ثقيلة ومزدحمة تبرز بين الفيلات والقصور الانيقة التى تطل على النيل ويبدو ان هذا السحر وليد نعومة خاصة يتميز بها تيار الحياة القاهرية نتج عن صفاء سمائها الحلوة التى لاتتخذ المنظر المتهجم للسماء الاوروبية ومن اعتدال مناخها الذى يخلو من التقلبات الحارة والعواصف المدمرة ون اهلها الذين يفتقرون الى خشونة النورمنديين من اهل الشمال الاوروبى والى همجية القبائل الافريقية ، مخلقهم يتسم بالسماحة واللين و هنالك سبب اخر لهذا السحر الذى يحيط بتلك المدينة يتمثل فى هذه الاساطير التى ترسم صور شاعرية تمس شفاف القلوب.
التعليقات مغلقة.