الحسد، أول البلايا والرزايا والخطايا ومصدرها الرئيس على الأرض، حينما حنق قابيل على أخيه هابيل، مستكثرا فضل الله عليه وتقبله له ولقربانه، ومن ثمة كان شرارة جر البشرية كلها لكل السلوك الآثم التى يتمرغ فيها الكثيرون الآ والى قيام الساعة، ولعل ما يحزن النفس ويبكى القلب أن داء الحسد تمكن من قلوب الكثير منا -إلا من رحم ربى-، فصار الأخ يحسد أخاه، وصار المجتمع قدرا يغلى بصديد الحقد والحسد والبغض حتى لأقرب القرباء، فتقطعت صلة الرحم وتمزق أوصالها.
ولما كان للحسد من أثر شقى على الانسان وجدنا قرآننا الكريم يذمه وينهي عنه، يقول الله تعالى :” وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ”، وقال سبحانه: “أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ”، ويقول تبارك وتعالى:” وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَدًا مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ”، وفى تفسير هذه الآية يقول ابن عثيمين: “والآية تدلُّ على تحريم الحسد؛ لأنَّ مشابهة الكفار بأخلاقهم محرمة، والحاسد لا يزداد بحسده إلا نارا تتلظى في جوفه؛ وكلما ازدادت نعمة الله على عباده ازداد حسرة؛ فهو مع كونه كارها لنعمة الله على هذا الغير مضاد لله في حكمه؛ لأنه يكره أن ينعم الله على هذا المحسود، ثم إنَّ الحاسد أو الحسود مهما أعطاه الله من نعمة لا يرى لله فضلًا فيها؛ لأنه لابدَّ أن يرى في غيره نعمة أكثر مما أنعم الله به عليه، فيحتقر النعمة”، كما نهى صاحب الخلق القويم رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم عن الحسد فقال: “لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا”
والحسد تمني زوال نعمة المحسود إلى الحاسد، لكننا نجد فرقا بين من يتمنى زوال نعمة غيره، وبين الغبطة ومن يتمنى أن يكون له نصيب معه فى النعمة نفسها، دون حقد أو غل أو حسد، فيجزى بمثلها، وفى هذا يقول ابن منظور فى مؤلفه لسان العرب: “الغبط أن يرى المغبوط في حال حسنة، فيتمنى لنفسه مثل تلك الحال الحسنة، من غير أن يتمنى زوالها عنه، وإذا سأل الله مثلها فقد انتهى إلى ما أمره به ورضيه له، وأما الحسد فهو أن يشتهي أن يكون له ما للمحسود، وأن يزول عنه ما هو فيه”.
وإذا كان العين حق، فلعل ثمة من يسأل عن الفرق بين العائن الذى يحسد بعينه ما يرى، والحاسد الذى يحسد غيبا، وفى هذا يجيبنا ابن القيم فى “بدائع الفوائد” بقوله: “العاين والحاسد يشتركان في شيء، ويفترقان في شيء؛ فيشتركان في أن كل واحد منهما تتكيف نفسه وتتوجه نحو من يريد أذاه؛ فالعائن تتكيف نفسه عند مقابلة المعين ومعاينته، والحاسد يحصل له ذلك عند غيب المحسود وحضوره أيضا، ويفترقان في أن العائن قد يصيب من لا يحسده من جماد، أو حيوان، أو زرع، أو مال”، ويقول أيضًا: “العائن حاسد خاص، وهو أضر من الحاسد، وأنه أعم فكل عائن حاسد ولا بد، وليس كل حاسد عائنًا”.
ولما كان الحسد مرض خبيث، مزمن، عضال، يصاب به الكثير-عافانا الله-، فقد تحدث عنه الصحابة الأكارم أيضا، محذرين منه، ناهين عنه، ومن ذلك قول ابن مسعود رضى الله عنه:: “لا تعادوا نعم الله “لا تعادوا نعم الله عزَّ وجلّ، قيل: ومن يعادي نعم الله؟ قال: الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله”، ويقول معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما: “كلُّ الناس أستطيع أن أرضيه إلا حاسد نعمة، فإنه لا يرضيه إلا زوالها”.
وكم كان حكيما صادقا أبو الليث السمرقندي حين وصف عقوبات الحاسد، وما يناله من جراء خلقه المشين، فيما ورد فى “المستطرف للأبشيهي” قوله: “يصل إلى الحاسد خمس عقوبات قبل أن يصل حسده إلى المحسود: أولاها: غمٌّ لا ينقطع. الثانية: مصيبة لا يُؤجر عليها. الثالثة: مذمَّة لا يُحمد عليها. الرابعة: سخط الرب. الخامسة: يغلق عنه باب التوفيق”، ويزيد ابن حزم فى مؤلفه”الأخلاق والسير” فيقول: “إنَّ ذوي التراكيب الخبيثة يبغضون لشدة الحسد كلَّ من أحسن إليهم، إذا رأوه في أعلى من أحوالهم”.. جنبنا الله خُلق الحسد وقلوب وأعين وألسنة الحاسدين.
التعليقات مغلقة.