هبوط اضطراري!
قصة قصيرة – بقلم: ياسر ياسر
في ركنٍ صاخبٍ من حيّ شعبيٍ قديم،تمر به ضمن مسارها اليومي المعتاد الطائرات قبل أن تلامس مدارج المطار حتي تحترف جدرانه التنهيد، وتوشوش ليلًا بالأسرار.
هناك، حيث كانت البيوت تعانق السماء بنظرات التمني والرجاء..كانت “سُندس” تجلس عند نافذتها كل مساء تُحصي الطائرات كأنها نجوم أمنيات،وتبتسم للحلم الوحيد الذي لم يسقط بعد:
“يومًا ما… سأكون زوجة طيّار. نحلق فوق الغيم، نرتشف القهوة في باريس، نتناول الإفطار في روما، ونغني للغروب في كيب تاون.”
لم يكن الحلم نزوة عابرة… بل خريطة مرسومة على قلبها بالحبر السريّ مزخرفة بالطموح، مطعّمة بالصبر.
بطلها: رجل ببدلة طيّار، وجواز سفر لا يعرف النوم، وصور تُحصد القلوب على “إنستغرام”.
وفي مساء خريفيّ هادئ… دقّ الباب، لم يكن بائع الخبز، ولا صديق الأب بل القدر نفسه، في بدلة أنيقة،
عطر فاخر، ونظارة عاكسة للدهشة!
دخل الأب الغرفة وقال بنبرة اختلط فيها الذهول بالحماس:
“يا سندس… في عريس متقدّم لك. طيّار!”
تهلل قلبها… ارتفعت مع الأفق، حلقَت بأحلامها،
تخيلت شهر العسل بين المطارات، رحلات بلا حقائب،
كلمات حبّ تُكتب بين مطارات العالم، وهاشتاج: زوجة_الطيار يملأ التعليقات،حتى صديقاتها أُصبن بالدهشة
قالت إحداهن:
“ده نصيبك سبقنا على المدرج!” وأخرى همست:
“خلي بالك من الحسد… دي أمنية تتحسد.”
لكن، كما الطائرات…ليست كل رحلة تصل بسلام، ففي يوم اللقاء الرسمي، دخل “العريس المنتظر”…خوذة صغيرة في يده، يونيفورم رسمي يحمل شعار مطعم شهير، وابتسامة واثقة كأنها تطير.
نظرت إليه سندس بذهول يشبه خوف الهبوط الاضطراري:
“حضرتك… طيّار؟”
أجاب بفخرٍ يلمع على جبينه العَرق:
“أيوه… طيّار دليفيري! أطير بالاسكوتر وسط الزحمة وساعات أطير على الرصيف… لو في حفرة!”
انفجرت الفقاعة…سقط الحلم من نافذتها،تحطم على أرض الواقع كزجاج طائرة لم تجد مدرجًا آمنًا.
صمتٌ مهزوم خيّم على المكان.
قال الأب بدهشة:
“يعني طيّار… بس مش في الجو؟”
وقالت الأم بانكسار:
“ده بيجيب الأكل… مش هيسافر بيكي تاكلي برّه البلد!”
لكن “سندس”…
حاولت مقاومة الانهيار الداخلي، رفعت وجهها، وابتسمت قبل أن تذرف الدمع:
“يا ماما، هو مش بيطير فوق السحاب…
بس بيطير لقلبي،مافيش طيّار بيجيبلي مشويات لحد باب البيت، معاه خصومات… وساعات بياخدلي من أكل الزباين اللي ما استلموش أوردراتهم! ده مش بس طيّار… ده ملاك على سكوتر!”
أيام مرت بين شدّ وجذب،ضحك وتهديد بالهروب، لكن في النهاية…
تقبلت العائلة “الطيّار”، أو على الأقل… رائحة الكفتة اللي كانت تسبق دخوله.
ظنت “سندس” أنها أنقذت الحلم…أو منحت له جناحين جديدين،لكن الحياة كانت تُخطط لهبوطٍ آخر.
في صباحٍ باهت، دخل العريس بلا خوذة،بلا ابتسامة،بصوتٍ خافت:
“أنا قررت أغيّر الشغل…هشتغل ساعي بريد بالعجلة.” تجمّد المشهد، نظرت إليه، ثم إلى والدها، ثم إلى الباب،
ثم قالت بضحكة باكية:
“يعني حتى المشويات مش هشوفها تاني؟!”
وهكذا…
سقط الحلم، ليس لأن الطائرة تحطمت،بل لأن وجهتها تغيّرت.
أصبحت “زوجة ساعي بريد”، لا تستطيع ان تحلم برحلة إلى أقرب سوبر ماركت، وتحلق معه عبر عروض الجمعة البيضاء! أو اليوم الاسود” بلاك داي”
النهاية…ربما…أو ربما بداية لحلم جديد:
تحلم ان تكون زوجة “الكاشير”،
في انتظار نداء عبر الميكروفون:
“الكاونتر فاضي!”