موقع اخباري شامل صادر عن مؤسسة تحيا مصر

قصة بطل لاينسي

تقرير ومتابعة عمرو سراج
رقيب أول / إبراهيم عوض …
القومسيون الطبي أكد عدم صلاحيته للخدمة ، فأصبح قاهر الدبابات …..
نادَى الجندي الذي يقف أمام باب لجنة القومسيون الطبي للقوات المسلحة :
رقيب أول / إبراهيم محمد عوض ، فإقترب إبراهيم و أشار له الجندي بالدخول ليجد أمامه منضدة كبيرة يجلس عليها مجموعة أطباء من رتب كبيرة ، نظر إليه رئيس لجنة القومسيون قائلًا :
واضح يا إبراهيم إنك كنت ماهر للغاية في وظيفتك و من الصعب جدًا التفريط في مقاتل شجاع و متمكن من عمله مثلك ، لكن للضرورة أحكام ، وضعك الصحي لم يعد يسمح بأن تستمر في الخدمة بالقوات المسلحة ، ونظرك أصابه ضعف نسبي وهذا لا يساعدك على أداء عملك على الوجه الأكمل لأنك عامل توجيه للمقذوفات الموجهة المضادة للدبابات ، لهذا نحن مضطرون أسفين إلى إحالتك إلى الإستيداع لأسباب طبية..
رد إبراهيم عليه :
– أنا ما إشتكيتش من حاجه يا فندم ..
– أمثالك لا يشتكون يا إبراهيم ..
– يافندم ، أنا حتى أخر وقت ، أديت واجبي كما ينبغي ، و قبل وقف إطلاق النار سنة ١٩٧٠ أنا آخر من أصاب دبابة للعدو ..
– الكلام ده من ٣ سنين والإنسان بين يوم و ليلة صحته ممكن تتعرض لمتغيرات كبيرة ، والمرحلة الجاية مرحلة حاسمة ، و الضغوط فيها على السليم صعبة ، فما بالك باللي حالته الصحية فيها مشاكل ..
– و الله يافندم إحنا عشنا في حرب الإستنزاف أيام ما تخطر على بال حد ، و جحيم من طيران العدو مالوش مثيل، و رغم كده عملنا معجزات..
– أيوة..
بس كنت بصحتك ..
– و الله يا فندم لو الحرب قامت دلوقتي حاسوّي فيها الهوايل..
– إسمع يا إبراهيم ،
أنا مقدّر مشاعرك وواثق في شجاعتك وحبك للقوات المسلحة، بس يا ابني للضرورة أحكام ..
لم يستطيع إبراهيم أن يغالب دموعه بعد قرار إنهاء خدمته فخرج مسرعًا من الحجرة و دموعه تنهمر بغزارة، و ما إن خرج من الباب حتى أُصيب بحالة هياج و هو يصيح :
أنا كويس ..
أنا مش عيّان..
أنا مش أكتع عشان تعملوا كده فيّا..
أنا ممكن أحارب جيش لوحدي ..
ومع إزدياد ثورته أسرع أفراد الأمن والشرطة العسكرية إليه لتهدأته ، وهنا خرج قائد القومسيون وطالبهم بأن يتركوه ، ووضع يده على كتف إبراهيم وإصطحبه إلى مكتبه وقد أمر أحد الجنود بإحضار كوب من الليمون المثلج، و بعد عشر دقائق خرج إبراهيم حزينًا و صامتًا و هو يغادر المكان .
لا إبراهيم ولا قائد القومسيون ولاجميع الأطباء كان أحد منهم يتصور أن القدر سوف ينتصر لإبراهيم ، و أن الصدفة سوف تصنع لهذا الرجل مفاجأة من عيار ثقيل في مفارقة أقرب إلى الخيال .
مرت الأيام الأولى عليه ثقيلة و كئيبة لكن ما باليد حيلة، لابد أن يُنهي إجراءات تقاعده، و في صباح يوم ٦ أكتوبر نهض مبكرًا كعادة العسكريين و بعد صلاة الفجر حمل معه كل مايتعلق بفترة خدمته من أوراق وشهادات وسافر من بلدته قاصدًا وحدته لإحضار إخلاء طرفه وجميع الأوراق التي تساعده على إنهاء إجراءات التقاعد و طُلبت منه فى هيئة التنظيم و الإدارة .
كانت الوحدة قد عادت من خط الجبهة و تمركزت في منطقة التل الكبير، و ما إن وصل إلى المكان لم يجد أمامه سوى بقايا و أطلال وحدته فوج المقذوفات ، و بالسؤال في نقطة قريبة للشرطة العسكرية أخبروه أن الفوج تحرك إلى الإسماعيلية فشد الرحال إلى هناك، و بينما هو في الطريق شعر بأجواء غريبة تحيط به من تحركات و قوات من أسلحة مختلفة تتمركز في أماكن لم تكن تتمركز بها القوات من قبل طوال حرب الإستنزاف ، و ما بعدها في الإسماعيلية ، لم يصبه التوفيق للمرة الثانية في العثور على الفوج الذي كان يخدم به .
كانت الساعة بعد هذه الرحلة قد وصلت إلى الواحدة و النصف و قد وصلته أخبار بأن الفوج انتقل منذ فترة قصيرة إلى سرابيوم ، كان يقف حائرًا بعد رحلة بحث لم يعد واثقًا بأن الاستمرار فيها سيؤدي إلى نتيجة ، و فجأة توقفت أمامه عربة ونزل منها ضابط إحتياط من بلدته و أخبره أن الفوج في مناورة ويصطفّ قرب القناة ، و لأن الملازم إحتياط لم يقم بإجازة منذ فترة طويلة أخذ يطمئنّ منه على أحوال أسرته و الأصدقاء و الجيران في البلد ، وفجأة و هما منهمكان في الحديث عبرت الطائرات بكثافة من فوق رأسيهما في طريقها إلى سيناء، و بعد فترة قصيرة بدأت أصوات المدفعية تصمّ الآذان من شدة كثافتها، ثم تعالت صيحات :
الله أكبر …
الله أكبر …
تنطلق من الحناجر في كل مكان، و بدأت الوحدات تتتابع في عبور القناة، فإنخرط إبراهيم في إحداها مقدما نفسه إلى قائد الوحدة، و تصادف حضور ضابط مقذوفات لإعطاء تمام الإستعداد للعبور، فتعرف على إبراهيم و قابله بالأحضان، فقد كان إبراهيم مُلحقًا على هذه الوحدة بعض الوقت للمساعدة في تدريب أفرادها، و طالب بإصطحاب إبراهيم إلى وحدة المقذوفات الملحقة على المشاة، و هكذا سُمِح له بأن يشارك أقرانه بعد أن صار مدنيا في العبور، و على الفور منحه أحد الأفراد أفرولا و دبروا له خوذة و شَدة ميدان، و قد صار فردا في الكتيبة ٣٢ في موعد مع القدر .
كان يساعد على الضبط و التنشين في عربة الصواريخ الموجهة و تجهيز الصواريخ، ولم يكن يعرف قائد الكتيبة ٣٢ فقدم له الأوراق التي تثبت ترقّيته ٣ مرات في عام واحد إستثنائيًا، في عام ١٩٦٩ ، و ذلك لنجاحه في تدمير عدة دبابات للعدو من مناطق البلاح و القنطرة غرب و رأس العش، لم يكن راضيًا عن أنه لا يقوم بالتوجيه، لكن ما باليد حيلة، و هو لم يكن يحلم أن يشارك في العبور وأن يصبح في سيناء يشارك في هذه الملحمة العظيمة، مع أن سعادته الحقيقية هي أن يجلس خلف منظار التوجيه و يشتبك مع الدبابات المعادية و أن يمارس هوايته القديمة في إصطيادها.
لم يمضي وقت طويل حتى تعرض أحد أفراد التوجيه للإصابة، و قَبِل قائد الكتيبة ٣٢ أن يحل إبراهيم مكان هذا المصاب ، و كان الظرف وقتها حرِجًا، فلقد نجحت فصيلة من الدبابات المعادية في الإختراق من الحد الأمامي، و أصبحت على مقربة من مواقع الكتيبة، و بعد مسافة قصيرة سوف تدخل إلى المنطقة الميتة لمرمى الرمي ، تم تجهيز الصاروخ في وضع الضرب، و جلس إبراهيم عوض خلف عصا التوجيه و عينه على التليسكوب و بدأ في التنشين على الدبابة الأقرب قبل أن تضيع فرصة إصابتها، و حينما توفرت شروط الضرب أطلق الصاروخ وأصاب هدفه مباشرة .
في هذه المعركة دمّر إبراهيم عوض ثلاثة دبابات للعدو ، منفردًا بالرقم الأعلى بين جميع الرماة من الموجهين في الكتيبة، و مع انسحاب دبابات العدو المتبقية ، إنتصب إبراهيم من خلف التليسكوب واقفًا و هو يصيح بقوة :
تعالى يا قومسيون ..
تعالوا يا دكاترة ..
تعالي يا كل إدارة الخدمات الطبية ..
و هاتوا معاكم وزارة الصحة كمان ..
مش إبراهيم عوض اللي يُحال للإستيداع لأسباب طبية ..
إبراهيم عوض في الميدان هوه أبو السباع ..
إبراهيم هايفضل طول عمره وحش المقذوفات الموجهة ..
دمك مش هايروح هَدَر يا محمد يا إبن محمد …
ويتذكر إبراهيم عوض قائلًا :
في اليوم التالي عاودت دبابات العدو الهجوم مع أول ضوء قاصدة الكتيبة ٣٢ التي تعوقها عن الوصول إلى المعبر و تدميره ، و إمعانًا في تضليل العدو تم تغيير خطة الإشتباك بالضرب من خلف ساتر، و نحن مختبئون و معنا صواريخنا، و نجحت في هذا اليوم في تدمير دبابتين بعد أن كلفني النقيب/ عبد الوارث بالمشاركة في التصدي للدبابات التي تحاول الإختراق من الجانب الأيمن .
وإستمر الحال على هذا ثلاثة أيام ، و في اليوم الثالث أتاني النقيب /عبد الوارث و معه بعض الجنود و قال لي :
الناس كلها بتسأل هو مين محمد إبن محمد اللي كل ما تصيب دبابة تقول له دمك ما راحش هدر ، و تكررها مرات و مرات؟؟
نظرت إليهم غارقًا في صمت طويل ودون أن أردّ ، فربت على كتفي النقيب / عبد الوارث وزغدني زغدة خفيفة وقال :
رحت فين يا عم إبراهيم؟
مافيش يافندم ..
حضرتك عاوز تعرف مين محمد ابن محمد ..
محمد الأولاني أبويا اللي ماشفتوش، و محمد التاني جدي اللي رباني ..
محمد الأولاني قتلته المنظمات الصهيونية الإرهابية في حيفا سنة ١٩٤٨ و كان عمري وقتها أقل من ٣ سنوات، و باحس إن أنا بأنتقم له مع كل دبابة أدمرها . .
لم يُعقِب النقيب / عبد الوارث إلا بالمثل المعروف …
اللي خلف ماماتش يا إبراهيم ..
كان والد إبراهيم موظفًا في محطة السكة الحديد في حيفا عندما كان القطار يخرج من مصر ليصل إلى الشام ، و مات والده على يد العصابات الصهيونية التي فجرت أحد القطارات بالمحطة، و كان إبراهيم قد وُلد فى حيفا عام ١٩٤٥ ….
في نهاية اليوم الثالث من الحرب كان الملازم / أحمد علي في طريقه إلى قيادة الفرقة لتسلم أحد التقارير السرية ، و تصادف عند عودته أن مر على الكتيبة ٣٢ للإطمئنان على ضابط دفعته، فإلتقى إبراهيم عوض وهو مرتديًا الأفرول، مما أصابه بالدهشة و كلاهما يحتضن الآخر، و حكى له إبراهيم ما جرى منذ يوم ٦ أكتوبر، و عندما عاد الملازم / أحمد علي إلى الفوج أخبر قائد الفوج بضرورة إستعادة إبن الفوج إلى وحدته الأصلية ، و بالفعل وصل نقيب بعربة جيب، و تم إستخلاص إبراهيم من بين ضباط و جنود الكتيبة ٣٢، الذين كانوا مصممين على استمراره معهم ، لكن إبراهيم حسم الأمر مفضلًا العودة إلى بيته القديم ، فهناك الزملاء عشرِة العمر و الذكريات و العيش و الملح، و لو مات يحب أن يموت بينهم .
مرت الأيام و إنتهت الحرب، و صار وجود إبراهيم معضلة لكن دوره المشهود صنع له حيثية قوية، و منحه شهادة ميلاد جديدة في القوات المسلحة ، فالشجاعة و الإجادة و الإخلاص لا يمكن التفريط فيهم بسهولة .
ذهب قائد الفوج إلى قائد الجيش و قدم له تقريرًا عن إبراهيم فأخبره أن تقريرًا قبل هذا وصله عن إبراهيم من الكتيبة ٣٢ و أنه سيرفق التقريرين إلى قائد مدفعية الجيش اللواء / محمد عبد الحليم أبو غزالة .
ناقش اللواء / أبو غزالة موقف هذا الرقيب أول الشجاع مع مدير المدفعية، فطلب منه إعداد تقرير سيقدمه إلى وزير الحربية .
أصدر المشير / أحمد إسماعيل علي قراره بعودة إبراهيم إلى الخدمة و إعتبار المدة التي قضاها خارج الخدمة إجازة دون مرتب، و تكريمًا له بعد الحرب تم إلحاقه بمركز تدريب المدفعية للإستفادة من خبراته غير العادية في تدريب عمال التوجيه للمقذوفات الموجهة المضادة للدبابات ، لينهي خدمته فيما بعد في عام ١٩٨٥.
قد تكون صورة لـ ‏وقوف‏

التعليقات مغلقة.