كتب : د. حسين عبد البصير
مدير متحف الآثار-مكتبة الإسكندرية
يعتبر الجيش المصري العظيم هو صمام أمن الأمة المصرية منذ الأزل والدرع الواقي الذي يحمي مصر من الأخطار الداخلية والخارجية. وكان المصري القديم يميل بطبعه للسلم ولا يميل للحرب ولا يلجأ إليها إلا دفاعًا عن نفسه وبلاده؛ لذا نرى أن العقيدة العسكرية المصرية هي عقيدة ثابتة راسخة تقوم على الدفاع عن الأوطان ولا تقوم على الاعتداء على الآخرين. والجيش المصري هو أول جيش نظامي في التاريخ. وفي عصر الأسرة السادسة تجلت عبقرية الجيش النظامي في عهد الملك بيبي الأول حين خاض الجيش المصري معركة بقيادة القائد وني الأكبر، والتي انتصر فيها على البدو الموجودين على حدود مصر الشمالية الشرقية، والذين أطلقت عليهم النصوص المصرية “عامو حِريو شع” أي “الأسيويين الموجودين على الرمال”. وعلى الرغم من أن الجيش المصري كان يقاتل بضراوة في مواجهة جيوش الأعداء، كان يتعامل بمنتهي الرقي والتحضر مع المدنيين والمنشآت المدنية؛ لأن الجيش المصري يؤمن بأن قوته ليس في عسكريته فحسب، بل تكمن في سلوكه المتحضر أيضًا. وفي هذا السياق، يذكر القائد العسكري وني الأكبر متحدثًا عن جنوده في نص سيرته الذاتية: “لم يتشاجر أحد منهم مع غيره، ولم ينهب أحد منهم عجينة الخبز من متجول، ولم يأخذ أحد منهم خبز أية مدينة، ولم يستولِ أحد منهم من أي شخص على عنزة واحدة”. ويرجع تدريب الجنود المصريين على ضوابط وأخلاقيات العسكرية المصرية العريقة، من خلال عدم التعدي على المدنيين ومن خلال عدم القيام بأية عمليات سلب أو نهب للمناطق التي يمرون عليها أثناء قيامهم بمهمتهم في تأمين الحدود المصرية، إلى عقيدة الجيش المصري الثابتة وهي أنه يقاتل الأعداء المهاجمين له فقط ولا يقوم بأية جرائم حرب قد تشوه تاريخه العسكري المشرف الناصع البياض؛ نظرًا لأن الجيش المصري لا يخالف أخلاقيات وأعراف وتقاليد القيم العسكرية الثابتة. وبهذا يتضح أن مصر الفرعونية أبدعت الأخلاقيات العسكرية في العالم وأن الأخلاقيات العسكرية المصرية عريقة عراقة مصر الفرعونية في وضع قواعد أخلاقيات الجيوش والحروب منذ آلاف السنين، وأنها بذلك قد سبقت المواثيق الدولية في العالم. ومصر دومًا سبّاقة في كل خير وحق وجمال وفي سنّ ما هو مفيد للإنسانية؛ لأنها هي التي علّمت العالم وأرشدت البشرية إلى فجر الضمير.
لقد كانت محنة احتلال الهكسوس للأرض المصرية أول مواجهة وأول احتلال تمر به أرض مصر المباركة، فكان التفكير المصري العبقري بأن تقوم مصر بالتوسع خارج حدودها التقليدية وتكوين أعظم إمبراطورية في العالم القديم، فكانت الإمبراطورية المصرية العظيمة في مصر وبلاد الشرق الأدنى القديم من الأناضول شمالاً وإلى القرن الأفريقي جنوبًا ومن الفرات شرقًا وإلى الصحراء الليبية غربًا، أو “عصر الإمبراطورية” أو “عصر الإمبراطورية العسكرية” أو “عصر المجد الحربي” أو “عصر المجد العسكري”. لقد كان المهندس الأول لهذه الإمبراطورية هو الملك تحتمس الأول العظيم وكان المكمل لهذه الإمبراطورية هو الملك العظيم الفرعون المحارب تحتمس الثالث، أو نابليون العالم القديم، الذي ما تزال خططه العسكرية، خصوصًا في معركة مجدو الخالدة تدّرس في كل أكاديميات العسكرية العالمية الشهيرة، واستمر من بعده الفراعنة المصريون في الحفاظ على الإمبراطورية المصرية في بلاد الشرق الأدنى القديم، خصوصًا الملوك سيتي الأول ورمسيس الثاني ورمسيس الثالث وغيرهم، باستثناء فترة العمارنة وحكم الملك أخناتون الذي أهمل الإمبراطورية المصرية في الخارج حتى جاء الفرعون حور محب وحافظ عليها وأكمل ذلك من بعده خلفاؤه الملوك الفراعنة في عصر الرعامسة.
واعتمد الجيش المصري في تكوينه على الجنود المصريين في معظم الأوقات. وفي فترات قليلة ولاحقة، اعتمد على بعض الجنود المرتزقة. وكان الجيش المصري يتكون من الجيش البري الذي كان يتكون من المشاة والعربات التي كانت تجرها الخيول والرماّحين وجنود الحراب والأفرع الأخرى. وكانت أسلحة الجيش المصري تتكون من الأقواس العادية والمركبة والسيوف والفؤوس والرماح والدروع والحراب والعجلات الحربية (أو سلاح الفرسان). وأبدع المصريون القدماء في تطوير أسلحتهم التي صنعوها وفي الأسلحة التي تعلموها من الآخرين مثل العجلات الحربية. وتكون الجيش المصري أيضًا من الأسطول البحري الذي كان يحمي سواحل مصر البحرية في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر وكذلك في نهر النيل. وعرفت مصر الأسطول منذ عصر الدولة القديمة حين أرسل الملك سنفرو العظيم أسطولاً مكونًا من أربعين سفينة لجلب خشب الآرز من لبنان. وكان عصر الدولة الحديثة هو العصر الذهبي للبحرية المصرية؛ وذلك نظرًا لكثرة بناء السفن واستخدام الأساطيل المختلفة بكثرة، وتوسعت مصر آنذاك في بناء ترسانات السفن على سواحل البجر المتوسط والبحر الأحمر وعلى ضفاف نهر النيل. وكانت من أشهر المعارك البحرية المعركة البحرية بين الملك رمسيس الثالث وما يعُرف بــ”شعوب البحر” الذين حاولوا غزو مصر في عهده وقاموا بالزحف نحو مصر وتهديد حدودها برًا وبحرًا؛ فقام الملك العظيم رمسيس الثالث بمفاجأة العدو بأسطول بحري ضخم وهزم شعوب البحر شر هزيمة وحطم أسطولهم أمام شواطئ الدلتا وأنقذ مصر والشرق الأدنى القديم من خطرهم الداهم، وأحكم بقوة السيطرة المصرية على الحدود والسواحل الشمالية. وعانت مصر بعض الشيء في عصر الانتقال الثالث، ثم حاولت معاودة الأمجاد في العصر المتأخر، خصوصًا في عصر الأسرة السادسة والعشرين الصاوية إلى أن احتل الفرس مصر، ومن بعدهم الإسكندر الأكبر، ومن بعده خلفاؤه الملوك البطالمة حين صارت مصر مملكة يحكمها الغرباء إلى قيام ثورة 23 يوليو 1952.
مصر هي التي علمت العالم.
التعليقات مغلقة.