اعتدنا أن الهجوم على الإسلام وثوابته ورسوله من بعض المؤسسات الصحفيَة، أو جماعات متشددة أو بعض مفكرين جامحين، أو حتى من بعض أتباع الدين ممن يظنون أن التخلي عن الثوابت والتحرر من القيود الحاكمة تطوير وتجديد للخطاب الديني، ولكن حين يصل الأمر بأن يُدعم الهجوم على الإسلام ورسوله بخطاب رئاسيٍّ من قبل رئيس دولة كبرى تصنف على أنها في مقدمة البلاد التي ترفع رايات الحريَّات؛ ومنها حريّة المعتقد واحترام عقائد الآخرين، كما فعل الرئيس الفرنسي ماكرون، فنحن أما منحى خطير سقطت فيه كل الأقنعة، وانكشف الوجه القبيح للآخر الذي كان ولايزال الكثير من بني جلدتنا ومن مثقفينا يتغنون بحريَّاتهم التي تبيَّن أنها أوهى من بيت العنكبوت.
إن المسلك الذي سلكه الرئيس الفرنسي لم يكن زلة لسان في ساعة حماسة مر بها الرجل، بل هي كلمات مقصودة متعمدة نابعة من قناعة الرجل بما يقول؛ بدليل تكرارها مع تطويرها، ورغم موجة الانتقادات الشديدة التي قوبلت بها كلماته الأولى عن انعزاليَّة الإسلام وانغلاق أتباعه، ويأتي رفضه لإدانة الرسوم المسيئة لرسولنا ولديننا صراحة بمثابة التأييد الصريح من دون الغلاف الذي اعتادوا تغليف مواقفهم المماثلة والمسمى بحريَّة الرأي والتعبير، فما يردده الرجل يناسبه تمامًا ماتحمله هذه الرسوم وهذه الإساءات التي تصدر عن صحف ومجلات وجماعات عنصريَّة.
ولا أعتقد أن الرئيس الفرنسي يناسبه بعد هذه المواقف المعلنة أن يدعي أنه يؤمن بالحريَّات، أو أنه ضد العنصرية البغيضة، بل يناسبه أن يلقب بالراعي الرسمي والأب الروحي للعنصريَّة البغيضة، والداعم الرسمي للإرهاب في أبشع صوره، والمحرِّض على الكراهية والعداء بين مواطني دولته من المسلمين وغير المسلمين، وأظنه المحرِّك والمسؤول المباشر عن أحداث العنف والجرائم التي ارتكبت بعد سقطاته غير المسبوقة من قطع رأس مدرس من قبل مسلم، أو طعن لسيدتين مسلمتين، وإن ارتبطت هذه الأحداث بأسبابها المباشرة الأخرى.
لقد جعل ماكرون بمواقفه هذه المسلمين في بلاده في دائرة الاتهام، وكأنَّهم كائن غريب في جسد المجتمع الفرنسي الذي يتولى هو أمره، ويلزمه بمقتضيات منصبه أن يكون للجميع حاكمًا عادلًا لا يظهر أثر دينيه الذي ينتمي إليه إلا في مظاهر طقوس عبادته، وحقيقة الأمر أن الرئيس الفرنسي ليس بدعًا من الرؤساء الآخرين المعادين لديننا الإسلامي، غاية الأمر أن هؤلاء لازالوا في مرحلة إظهار خلاف مايبطنون، أمَّا هو فقد تجاوز هذه المرحلة، وأصبح له قصب السبق في الإعلان عما يبطن من عداوة للإسلام والمسلمين، ومما يدلل على صحة كلامي أن واحدًا من هؤلاء لم ينتقد تصريحات الرئيس الفرنسي، أو يطالبه بالتراجع عنها.
وأعتقد جازمًا أن الرئيس الفرنسي الذي ينتهك عيانًا جهارًا حرم الإسلام لايجرؤ على النطق بكلمة واحدة أو جزء منها عن اليهوديَّة واليهود، وأنه لو فعل لتسابق الرؤساء من الديانتين اليهوديَّة والمسيحيَّة على السواء في التصدي له واتهامه بالعنصريَّة، ومعاداة الساميَّة، والخروج على مقتضياته الرئاسيَّة، والدعم المباشر للكراهيَّة ونشر الإرهاب….وربما تطور الأمر لاتخاذ إجراءات اقتصاديَّة وغيرها ضد فرنسا التي يحكمها، لكنه لما كان مهاجمًا للإسلام دون غيره فيبقى الأمر حريَّة شخصيَّة، ويبقى الرافض لها أو المنتقد من المسلمين متشددًا ومنغلقًا وغير مؤمن بحريَّة الرأي والتعبير!.
لست منزعجًا من تصريحات الرئيس الفرنسي فهي ليست مفاجئة لي شخصيّا، وأرى أن هذه التصريحات قدمت خدمة للإسلام والمسلمين من حيث لم يقصد ماكرون، حيث أظهرت سماحة الإسلام والمسلمين في مقابل عصبيَّة عمياء لقائد دولة كبرى من دول الحريَّات المزعومة، فالمؤسسات الإسلاميَّة الكبرى وفي مقدمتها الأزهر الشريف بادرت بإدانة واستنكار حادثة الاعتداء على مقر صحيفة شار إبدو التي اعتادت نشر الرسوم المسيئة التي رفض ماكرون إدانتها، وأدانت كل حوادث الإرهاب التي وقعت في فرنسا، وغيرها من بلاد الغرب ربَّما قبل أن تدان من البلاد التي وقعت فيها هذه الحوادث، كنا ولازلنا وسنبقى منفتحين على أتباع الديانات الأخرى ومنه الدين الذي يؤمن به ماكرون، بل ونحترم اعتقاد البعض لديانات وتعاليم وثقافات وضعيَّة ما أنزل الله بها من سلطان، وفي بلادنا يعاقب المسيئ إلى يهودي أو مسيحي بذات العقوبة المقررة التي يعاقب بها المعتدي على مسلم، وفي خطابنا الديني المكتوب والمسموع يزاحم الحديث عن حقوق غير المسلمين من مواطني بلادنا ووجوب الإحسان إليهم، وتمكينهم من أداء شعائر دينهم ، وتحريم الإساءة لهم بالقول أو الفعل الخطاب المتعلق ببيان أركان الإسلام وشعائره، وهذا هو التسامح الحقيقي والحريَّة في أسمى معانيها.
وإذا كنا لانلوم ماكرون ولاغيره ممن هم على شاكلته فهم أحرار فيما يقولون ويرون أنه يحقق مصالح بلادهم، فماذا عن دولنا المسلمة؟ لانطلب من أحد الرد بمهاجمة دين أو أتباعه؛ لأن هذا يتنافى وتعاليم ديننا حتى لو أساء هؤلاء لديننا، ولكن بعض مواقف تخفف من حالة الاحتقان والإحساس بالمرارة جراء هذه الإساءات المتعمدة، كبعض كلمات مؤثرة تعبر عن رفض واستهجان لهذه السقطات الماكرونية، أو استدعاء سفير فرنسي لإبلاغه رفض تصريحات رئيسه ،ومطالبته بالتراجع عنها، أورفض لاستقبال الرئيس الفرنسي على أرض دولة مسلمة حتى يتراجع ولو كاذبًا عن تصريحاته!.
وبعيدًا عن المواقف الرسميَّة فإن مجرد تلويح الشعوب بمقاطعة المنتجات الفرنسيَّة يكفي لإفاقة الرئيس الفرنسي، وعودته إلى رشده، والكف عن التطاول على الإسلام والمسلمين، وحتى لاينضم إليه كثير من أقرانه في دول أخرى يشعرون بالغبطة من تصريحاته، وربَّما يفكرون في السير على طريقه. حفظ الله الإسلام والمسلمين ورد كيد الكائدين.
التعليقات مغلقة.