أكتب هذه السطور عشية اجتماع “القاهرة” لدول جوار السودان ، ونخشى أن تنتهى سيرة الاجتماع الجديد إلى ما انتهت إليه اجتماعات “أديس أبابا” و”جدة” من قبلها، فلم تصمت المدافع ، ولا هدأت الحرب المهلكة فى شوارع الخرطوم بمدنها الثلاث ، ولا توقف امتداد الشرارات الدموية غربا إلى ولايات “دارفور” ، وإلى شرق السودان ووسطه فى “كردفان” وولاية “النيل الأزرق” ، مع فشل مزمن فى تطبيق اتفاقات وقف إطلاق النار ، ورهان لا يتحقق على حسم طرف للحرب بالقوة العسكرية ، وذهاب لإشعال الحرائق فى هشيم التنوع العرقى والقبلى ، فى بلد شاسع المساحة عظيم الموارد ، وجوار متفجر بحروبه الأهلية الطاحنة من ست جهات ، باستثناء مصر المستقرة أمنيا ، وصاحبة العلاقة التاريخية الخاصة مع السودان . وقد تكون “القاهرة” تأخرت ، وانتظرت مضى ثلاثة شهور على إطلاق الرصاصة الأولى ، ربما لاعتبارات معقدة ، تأخذ فى اعتبارها حساسية أطراف سودانية موبوءة ، وقد بدت “القاهرة” الرسمية حريصة على لغة تهدئة وحياد معلن ، برغم أنها المتضرر الأكبر من النار التى تأكل السودان ، ليس فقط بحكم المصالح والروابط الاستراتيجية والنيلية التى تجمعها مع السودان ، بل بآثار الحرب المجنونة الجارية ، التى قتلت إلى اليوم آلافا مؤلفة ، وشردت الملايين من النازحين واللاجئين ، كان طبيعيا أن يتزاحموا على أبواب مصر الجنوبية ، وأن يصل عدد اللاجئين السودانيين الجدد فى مصر إلى قرابة 300 ألفا ، يضافون إلى نحو خمسة ملايين سودانى مقيم فى مصر قبلها ، برغم إجراءات التنظيم وربما التقييد ، التى تراعى مضاعفات أزمة اقتصادية يعانيها المصريون ، فوق أثقال وتبعات ما يجرى فى السودان ، وتقييده لحركة السياسة المصرية تجاه مشكلة سد الدمار الأثيوبى ، وبرغم حسن وفادة المصريين للأشقاء من السودان ، كما مع ملايين الأشقاء العرب والأفارقة اللاجئين ، إلا أنك لا تعدم وجود علامات تبرم أحيانا ، وقد لا تكون هذه هى المشكلة الكبرى اليوم ، وإن كان التخوف ساريا من استطراد ما يجرى فى السودان ، وبما دفع السياسة المصرية المتباطئة إلى نوع من التحرك الحذر ، زادت ضروراته بعد فشل وساطات دولية وإقليمية وأفريقية ، كان آخرها وساطة منظمة “إيجاد” ، التى تضم السودان نفسه مع “جنوب السودان” و”أثيوبيا” و”كينيا” و”جيبوتى” ، وكان طريقها ملغوما ، حتى قبل أن تعقد اجتماع “أديس أبابا” الأخير ، وتولى الرئيس الكينى الجديد “ويليام روتو” رئاستها ، وهو المعروف بتعصبه المسيحى الإنجيلى ، كما بصداقته وعلاقاته الانتفاعية مع “محمد حمدان دقلو” ـ حميدتى ـ قائد ما يسمى “قوات الدعم السريع” ، وبولائه المطلق للسياسة الأمريكية والبريطانية ، وقد ذهب “روتو” إلى أبعد تهجم ممكن على الجيش السودانى وحكومة الجنرال “عبد الفتاح البرهان” ، وطلب بصراحة تأليف حكومة سودانية فى المنفى ، وإسقاط أى اعتراف بالحكومة القائمة ، وإخراج الأطراف السودانية جميعا من الخرطوم ، ووضع العاصمة تحت احتلال ما يسمى “قوات شرق أفريقيا” ، أى تحويل السودان إلى “صومال” آخر ، وكان مفهوما ومتوقعا ، أن تعارض الحكومة والجيش السودانى ، وأن تمتنع عن المشاركة بوفدها فى اجتماع “أديس أبابا” ، وزادت الطينة بلة ، مع تصريحات “آبى أحمد” رئيس الوزراء الأثيوبى ، الذى طالب بحظر تسيير الطيران العسكرى وعمل المدفعية فى السودان ، وهو ما فضح النوايا الباطنة لمؤامرة ظاهرة على السودان ، تريد أن تفسح المجال لحرب أهلية مفتوحة فى السودان ، تكتب شهادة وفاته كدولة مستقلة ، وتمزقه إلى دويلات تحكمها ميليشيات ، وتيسر مطامح ومطامع دول جوار فى الوصول لغاياتها ، فلا يخفى على أحد ، أن أثيوبيا مثلا ، تريد أن تمحو وجود الجيش السودانى وقيادته ، وبالذات بعد استعادة الجيش لأغلب نواحى منطقة “الفشقة” الخصبة زراعيا على الحدود ، بعد أن اعتادت “أثيوبيا” وعصاباتها “الأمهرية” على استغلال أراضيها بقوة الأمر الواقع ، وبتغاضى حكومات “البشير” المخلوع عن العدوان الأثيوبى المتصل لعقود طويلة ، وهكذا انكشفت كل الأوراق المخفية ، فلم تكن كل الوساطات السابقة خالصة النية ، وفى “جدة” واجتماعاتها مثلا ، بدت المملكة السعودية أحرص على كسب الهدوء فى السودان ، لكن المشاركة الأمريكية كان لها قصد آخر ، ظهر فى تعمد التعامل على قدم المساواة بين الجيش السودانى والمتمردين من قوات “الدعم السريع” ، وامتنعت السياسة الأمريكية علنا عن إعطاء أى أفضلية “شرعية” للجيش السودانى ، برغم كثافة تقارير الميديا الأمريكية عن علاقات جماعة “حميدتى” مع “فاجنر” الروسية ، لكن مقاصد واشنطن الهدامة فى السودان تغلبت ، فهى لا تريد للحرب فى السودان أن تتوقف ، ولا تريد لدولة السودان أن تقف على حيلها ، ولا أن تتغلب على تمرد الميليشيات ، والعينة بينة من سنوات مضت ، حتى بعد ذهاب حكومة “البشير” ، فقد دعمت واشنطن أدوار ما يسمى البعثة الأممية فى السودان “يونيتامس” ، التى كان رئيسها الألمانى “فولكر بيرتس” نسخة أخرى من “بول بريمر” الحاكم الأمريكى للعراق بعد احتلاله ، بل عمل “بيرتس” سابقا فى مكتب “بريمر” نفسه ، وتحول إلى حاكم فعلى للسودان ، يؤلف المبادرات ، ويتستر بدعم أمريكى بريطانى نرويجى من وراء ما يسمى “قوى مدنية” ، جرى إغراقها بالجنسيات الأجنبية والأموال والامتيازات وصولا لما أسمى بالاتفاق الإطارى ، الذى أتاح لملياردير مناجم الذهب المسروق “حميدتى” ، أن يلعب لعبته ، وأن يبدو فى صورة الزعيم الديمقراطى (!) ، الذى يرفض دمج قواته “الدعم السريع” فى صلب الجيش السودانى ، ويتجه بدعم خفى وظاهر من أطراف إقليمية ودولية ، إلى تنفيذ انقلابه على الجيش و”البرهان” صباح 15 أبريل الماضى ، وحين أخفقت هجمات الصدمة والرعب فى قتل “البرهان” ، وفى السيطرة على مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة السودانية ، أو إعلان “حميدتى” لنفسه قائدا لعموم القوات المسلحة ، حين فشلت الضربة الأولى ، وطردت قوات “الدعم السريع” من مطار “مروى” فى الشمال ، بدأ “حميدتى” حرب الاستنزاف المتصلة حتى اليوم فى مدن الخرطوم ، وتحول الرهان إلى وجهة أخرى ، هى السيطرة لأطول فترة ممكنة على مقار الشرطة والوزارات والهيئات والمرافق فى الخرطوم ، وتحطيم كل مظاهر وجود الدولة ، وفتح أبواب السجون ، والاستيلاء على منازل المواطنين ونهب ممتلكاتهم ، وإشاعة الفوضى فى عموم السودان ، بدءا من ولايات “دارفور” ، المنشأ الأصلى لعصابات “الجنجويد” ، التى جاء منها “حميدتى” تاجر الإبل ، الذى لم يتجاوز فى تعليمه دروس المرحلة الإبتدائية ، واستدعاه “البشير” ، وجعله جنرالا فى حرب “دارفور” ، التى اتصلت لعشرين سنة ، وراح فيها مئات الآلاف من الضحايا ، أضيفوا إلى ملايين القتلى فى حرب الجنوب ، التى انتهت بانفصاله ، وما يريدونه اليوم هو مواصلة حروب التفكيك ذاتها ، ودفع الوضع فى “دارفور” التى تجاوز مساحتها جغرافيا “فرنسا” ، إلى انفصال جديد ، يخطط له أن يمتد إلى “كردفان” و”النيل الأزرق” وغيرها ، حيث تنشط جماعة “الحركة الشعبية” جناح “عبد العزيز الحلو” ، المنضم بكامل قواته إلى الخطط والمصالح الأثيوبية فى تدمير السودان ، وهكذا تندلع نيران تلتهم أطراف السودان ، ولا تستبقى منه غير شماله الملاصق لمصر ، وربما أجزاء من “الخرطوم” وولاية “الجزيرة” ، وبدعوى استحصال كل الأعراق والقبائل على حقوقها و”دولها” فوق جثة السودان ، ولا بأس عندهم ، من إضافة توابل “ديمقراطية” و”علمانية” على طبخة الموت المستعجل . ومفتاح الدمار كله ، أو سلامة ما تبقى من السودان فى المقابل ، هو مصير الجيش السودانى ، فقد ولد السودان منذ استقلاله بعاهة ملازمة ، هى ضعف الدولة المركزية فيه ، وضعف تناسب حجمها مع اتساع مساحة البلد وتنوع ثرواته وأعراقه ، وموارد الخطر فيه وعند أطرافه ، ولا قيامة للسودان بغير جيش قومى محترف جامع وقوى ، يكون عمودا فقريا لدولة أقوى ، لا تقوم ديمقراطية حقيقية بغير وجودها ، فالديمقراطية لا تنشأ ولا تبنى فى فراغ دولة ، والمجتمع لا يأمن ولا يتطور ويندمج فى ظل تعدد الجيوش والميليشيات ، ونشرها لخوف ورعب وجودى ، يعيد الناس إلى احتماء بعصبيات وقبليات وعرقيات أصغر ، أو يحملهم على الهروب بالجملة من بلادهم ، على نحو ما يجرى بعضه اليوم ، ويتفاقم مع تتابع شهور الحرب الجارية فصولها ، وهدفها الأول هو تحطيم الجيش ودفن معنى الدولة ، وكل جهد جاد يسعى للتهدئة ووقف إطلاق النار ، عليه أن يساعد السودان أولا فى تجنب مصائر الهلاك ، فانفجار السودان كله لا قدر الله ، لا يترك من فرصة لأحد فى جواره أن يغمض عينيه ، ولا أن يأمن على شعبه وسلامة وجوده ، وهذا هو بعض التحدى الذى تواجهه “القاهرة” اليوم ، فإما أن يكون السودان موحدا وقويا ، أو لا تكون مصر بأفضل حال .
التعليقات مغلقة.