قليل من المدن التى يمكن أن ثير خيال المرء لدى سماع اسمها ، إن هذا الاسم يبعث فى النفس صورا وخيالات بطولية رائعة ومفزعة وقاسية هناك نرى الأهرامات تلك الصروح الهائلة تعبر عن فكرة الخلود فى عالم سماوى لا عن نهاية الحياة التى توحى بها المقابر الأوروبية ، وتبدو لنا قلعتها كقائد حربى مختال يشرف على جنوده ، فترسم لنا صور المماليك بعمائمهم وثيابهم الفضفاضة وهم منطلقون على صهوة جيادهم وفى أيديهم سيوفهم مشرعة ينعكس عليها ضوء الشمس ، وقد يثير الاسم صورة مدينة حديثة تزدحم بالسيارات وتخترق سماءها الطائرات ولكن على تعدد تلك الصور وتباينها تشترك جميعها فى كونها صورا جذابة تضاعف من روعة تلك المدينة العتيقة وتمنحها سحرا يجذب الكتاب والمبدعين إليها فيتبارون فى تسجيل مشاهداتهم لواقع القاهرة وآثارها وأسواقها وشوارعها وصخب الحياة الشعبية بعيدا عن تداعيات العالم السحرى الغامض لقصص ألف ليلة وليلة .
كامل زهيرى .. العاشق والمتيم
هو العاشق المتيم بترابها الباحث عن سر خلودها الهائم بين شوارعها وأزقتها المعظم لتراثها وفنونها وجلالها المتفاخر بالمولد على أرضها وتحت سمائها، قاهرى المولد قاهرى المزاج موسوعى الكتابة ونقيب النقباء ، ناظرا إلينا دائما من ثقب الباب كاشفا أسرار بفصيح الكلمات تسحر الألباب ، وهو المعترف بحبه لمدينته الفاضلة دون غرور ولا خيلاء .
اعترف العاشق بمكنون صدره فى كل لقاء وبكل حروف اللغة ومكنون العبارات فأفصح عن حبه الدائم وعشقه المتنامى للقاهرة التى ورث حبها عن والده الذى كشف له أسرارها فى فترة مبكرة من حياته حين روى له التجارب التى عاشها مثل أى شاب مصرى شارك فى أحداث ثورة 1919 وهى تجارب جعلت أحداث الثورة ماثلة فى ذهنه كأنه عاصرها أو كأنها حدثت بالأمس القريب. وفى محاضرة ألقاها زهيرى فى المركز الفرنسى للدراسات والوثائق “سيداج ” تحدث قائلا
“أحببت القاهرة بل وقعت أسيرها، ولم يعد جديدها يخفى عن قلبى قديمها، واحترفت التجول فيها عن قصد وغير قصد، أطوف شوارعها وحواريها وأزقتها، أدق بلا توقف وفى لطف وأحيانا على استحياء أبواب المبانى القديمة، وبعض الزمان الذى يمضى يتعلق بأطراف المبانى كما يتلصق فيها كالتراب وفى ساعات الصفا طالما سمعت نفسى تحدث نفسى لو لم أكن قاهريا لوددت أن أكون قاهريا”
كما يصف زهيرى حبه للقاهرة بالحب الدائم فرغم كثرة رحلاته الخارجية مابين الشرق والغرب وحبه لفرنسا إلّا أن القاهرة ظلت حبه الدائم وعشقه الفريد فيقول ” كنت أعرف أننى لن أكون فرنسيا رغم عشقى فرنسا لأننى كنت دائما أشعر أن هناك مسافة بينى وبين فرنسا تمنعنى من الاندماج فيها وهى مسافة لم أحسها فى القاهرة أبدا.
هكذا ولم تخلو كتابات زهيرى من مقاطع تحكى قصة هذا العشق الكبير الذى أفرز شغفا بتفاصيل شوارعها وروعة عمارتها وتطورها عبر الزمن ومن قلق على مستقبلها الذى لم يعد واضح المعالم فأوصى بفض الاشتباك بين الجهات التى تتنازع ملكية القاهرة .
ولقد أوضح زهيرى أن ليحيى حقى دورا كبيرا فى أن يهديه إلى أسرار التأمل فى عمارة القاهرة ، أو ليس حقى هومن قال أن من لم ير القاهرة لم ير الدنيا ؟ فأرضها تبر ونيلها سحر ونساؤها حوارى الجنة فى بريق عيونهن ودورها قصور ونسيمها عليل كعطر الندى ينعش القلب .
ومن هنا تضع علامات الاستفهام أمامنا الكثير من التساؤلات لماذا كل هذا الحب ؟ !
هل هو .. ذلك السحر الغامض الذى يتحرك فى نفوس المحبين ذلك الحنين المضرم إلى صخب الزحام وواجهات الحوانيت ودفء الحياة ورائحة التوابل والثياب المزركشة وإيوانات الجوامع الرطبة وصور القديسين التى تزين جدران الكنائس العتيقة ، أليس هذا السحر وليد نعومة خاصة يتميز بها تيار الحياة القاهرية .؟
كما يجب نتساءل هل يوجد من يحب القاهرة كما أحبها زهيرى ؟!
إن هذا الحب الدائم قيد الله له رجالا يحملونه بين جيناتهم يجرى فى عرقهم تفصح عنه أعمالهم وكتاباتهم ، ولعل من بين من حملوا مشعل هذا الحب الكاتب الكبير جمال الغيطانى فهو من الذين أصابهم سحر القاهرة بجلالها وعظمتها ، فأصبح قلمه سيفا يدافع عن معالمها الأثرية التى تتعرض للاعتداء وأصبحت مكتبة القاهرة الكبرى التى كان هو رئيس مجلس إدارتها مركزا للإشعاع الثقافى تحوى بين جنباتها تاريخ تلك المدينة العتيقة ، والتى أنطلقت من على منبرها الحر العديد من المبادرات والحملات الثقافية التى دعا المشاركون فيها إلى تكاتف كافة أجهزة الدولة للزود عن تراث القاهرة الذى يتعرض للسرقة والنهب والتعدى ، والذى يمثل ثروة قومية وواجهة حضارية تشكل الخلفية الثقافية والحضارية لمصرنا الحبيبة , ويعد الحفاظ عليها وإطالة عمرها واجبا قوميا لأنه تعبير صادق عن تاريخ وثقافة المجتمع وتجسيد لقيمته الثقافية وبيئته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الغيطانى …وسحر القاهرة الأبدى
أى سحرنا أصابك … هل هو 000 الصمت والنور المشرق الذى يعم المنائر الباهرة أم الضوء الحنون الذى يشيع فى الطرقات فيبعث فى النفس حبورا سرمديا مفعما بروعة صخب الحياة ، إنها تشابك الطرقات والأزقة مع أكداس العمارات الشاهقة وغوائل الشوارع الطارئة والجدران العتيقة التى يتراكم عليها التاريخ ، أم أنه ذروة الصدق الماثل فى تلك الأمكنة الحاوية لأزمنتها 000ماهو ذلك السحر؟ الذى يصيب المرء فيشغله ما سواه حتى فى اللحظات التى يقوى فيها احتمال الإقلاع ومتانة المغادرة وحتمية الانفصال تظل صورها ومشاهدها هى آخر ما يرد عليه.
لم يكن الغيطانى أول ولا آخر من أصيب بذلك السحر الأبدى فلقد سبقه إليه الكثيرون وسيأتى من بعده آلاف المسحورين ، لكن ذاكرته كانت أقوى من أتهيب بفكرة الرحيل أو أن تخشى اقتراب المغادرة ، فلقد رحل وكان آخر ما ورد عليه قادما منها مآذنها عن الظهيرة أهرماتها البعيدة فى الأفق الغربى وآذانها النائى شواهد مقابرها الصامته عمارتها الشاهقة التى تحجب السماء عن أعين المتطلعين إليها ، الفوح الطاهر لمياهها المعطرة المتدفقة من الفوهات النحاسية للقرب الجلدية الراقدة فوقق ظهور السقاة المتأننين الصابرين المادين الأيدى بالأكواب النحاسية الممهورة بالأختام السلطانية ، جوامها السامقة التى تدعو المارة للاحتماء بإيواناتها الرطبة وكنائسها العتيقة التى تزدان بصور القديسين الرصينة ، وقلعتها التى تبدو كقائد حربى مختال يشرف على جنوده وتلك الوجوه القادمة من أزقتها وحارتها تسطع منها ألوان الصفاء تتمايل كحمائم ترفرف على أعتاب أعشاشها وتتهامس بالذكر مناجية من خلف جدران خنقاواتها ، ما أكثر ما حملت تلك الذكرة وما أكثر ما غرقت فى ذلك السحر فاستسلمت للحنين الدائم حتى عند الرحيل ، غاب الغيطانى عن عالمه المنشود ولكن ذاكراه ظلت خالدة بل مخلدة لأنها مستمدة من أمكنتها الباقية ، التى خاض من أجلها أشرس المعارك دفاعا عنها وعن جلالها المكنون من أيدى العابثين ، فلقد كانت آخر معاركه من أجلها الحملة التى أطلقها من مكتبة القاهرة الكبرى مع مجموعة من المهتمين بالمدينة والتى كانت بمثاية صرخة من قلب عاشق يرى معشوقته تمتد إليها أيدى الغاصبين المأجورين ، فهب إليها والألم يعتصره مناديا فلتمتد أيديكم إليها أيها العاشقون مثلى أيها المسحورون مثلى انقذوا القاهرة الطاهرة أم الدنيا وأم المدائن ما أجمل هذا السحر … ما أجمل هذا العالم الذى عاشه الغيطانى ، وما أعظم تلك المعشوقة التى وهبها أثره فى وصيته ، فلتضمى أيتها المعشوقة أثره وذاكرته بين شوارعك وجدرانك العتيقة ، فلقد منحك أعز ما كان يملك مكتبته التى جمعها طيلة حياته والتى تجسد عشقه لك والتى خشى عليها من أيدى لصوص الفكر فلقد منحك إياها فضميها إليك برفق وارفعى الستار عنها قريبا ولتكن جزءًا منك كما أراد وكما كان هو جزء منك.
وأخيرا تحية صادقة لك محبى مدينة القاهرة الآن بتراثها وهموها ومشكلاتها المتفاقمة ، فعلى أيديهم لن تستطيع الأسطح المتعالية يوما أن تحجب مآذنها العالية فهى ناجية بشموخها ولن تستطيع أكداس العمارات الشاهقة أن تمس طابعها الأصيل وجلالها المكنون ، فهى هبة من حضارة الشرق ونفحة من نسائمه كلاهما خارج عن متناول الزمن .
التعليقات مغلقة.