الإسلام السياسي بين الحقيقة والتزييف
بقلم الأستاذة وحيدة برينيص
(إستشاري في العلاقات الدبلوماسية معتمدة دوليا)
“لو لم تكن البدايات صعبة لما ولد الإنسان يبكي”، إن هذه المقولة تعبر جيدا عن اللحظة التي فكر فيها الإنسان في الخروج من مأزق التبعية والعبودية ليتذكر أنه خلق حرا ذو إرادة وقيمة،وأن الله سخّر له ما في السموات والأرض جميعا،ولا نجد أي دليل في كل الكتب السماوية على أن الإنسان خلق ليكون عبدا لبني جنسه.
ولعل أصعب البدايات هي التفكير في التحرر من قيود الديكتاتورية والإستغلال و وقف نزيف المعاناة الإنسانية من أنظمة سياسية جائرة ومستبدة.وأنا لن أعود بالتاريخ إلى ما قبل الإسلام أو بعده حتى لا أظلم الديانات والشرائع التي نزلها الله لتحكم الإنسان بالعدل وتعلي كلمة التوحيد، بل سأبدأ من المسار التاريخي لتطور العلاقة بين الدولة والدّين في أوروبا حيث أن هذا المسار أثّر في مختلف دول العالم ومنها الدول الإسلامية و هو ما يفسر تغير المفاهيم والأسس التي انبنت عليها الدولة الإسلامية في بداية تشكلها حتى نهاية حكم الإمبراطورية العثمانية وفق هذا التوجه الجديد.
فالضعف الداخلي للدولة،بالإضافة إلى تكريس الدين في خدمة إستمرارية سلطة الحاكم تعتبر من العوامل التي أدت إلى زعزعة كيان العالم الإسلامي وقلب موازين القوى،وذلك على عكس ما تروج له أغلبية الحركات الإسلامية من أن تخلف وضعف الأمة الإسلامية مردّه التخلي عن تطبيق الشريعة وهو العنوان الذي تعطي به الحركات الإسلامية المتطرفة شرعية أفعالها الإرهابية،وتبقى الحقيقة التاريخية هي خير دليل على أسباب تدهور الأمة الإسلامية،فغرق الحاكم وأتباعه في حب السلطة والمال والصراع على الحكم أوصل الأمة إلى مرحلة الفراغ وهو ما أدى إلى تبني النموذج الغربي في أغلب الدول العربية والإسلامية.فالأفكار الثورية الجديدة التي غزت أوروبا مع الثورة الفرنسية وأهمها فصل الدولة عن الدين ساهم في ظهور إتجاهات علمانية وقومية وقد عملت عدة بعثات على نقل هذه التجربة إلى المجتمعات الإسلامية منها إيران في عهد الشاه وتركيا في عهد أتاتورك و الدول العربية المحكومة من سلطات الإنتداب الأوروبي انذاك ليبدأ حكام تلك الدول في بناء الدولة الحديثة على أسس غربية.ولكن هذا التوجه لم يدم طويلا ففي القرن العشرين ظهرت حركات إسلامية ترفض موجة التغريب وتريد العودة إلى مجد الأمة الإسلامية فبدأت بتقديم نفسها على أنها البديل الأمثل للأنظمة الديكتاتورية التابعة للغرب،وفي أواخر القرن العشرين بدأ ما يسمى بالصحوة الإسلامية وكان أول مظاهرها نجاح الثورة الإيرانية ،حيث أن ثورة الخميني نجحت في أن تكون البديل الأول والأقوى في كل الحركات الإسلامية وبعدها برزت التيارات الإسلامية الإصلاحية التي اختلفت في الهدف والمضمون رغم أن المسمى واحد.
مما يمكن القول أن مصطلح الإسلام السياسي رغم ربطه ببعض الأسماء والجماعات لا يمكن في الزمن الحاضر ربط مضمونه إلا بالحركات الإسلامية المعتدلة التي أقنعت الشعوب وتواصلت في الحكم.فمصطلح الإسلام السياسي ظهر لتوصيف حركات تغيير إسلامية تؤمن بأن الإسلام ليس ديانة فقط بل هو منظومة متكاملة صالحة لبناء دولة إسلامية حديثة،مما يعني أن هذا المشروع لتحقيق أهدافه يستثني الحركات الإسلامية المتطرفة.ولكن بالرجوع إلى المعطيات والأحداث على الساحة السياسية في الدول الإسلامية نتبين أن حركات الإسلام السياسي لها جانبان،جانب أول نلتمس فيه الحقيقة وهي تواجد حركات الإسلام السياسي كبديل للأنظمة الديكتاتورية وجانب ثاني نتبين فيه زيف هذا المصطلح أمام إمبريالية القوى الغربية.
أولا حقيقة الإسلام السياسي كبديل للأنظمة الديكتاتورية:
كان للثورة الإيرانية الكثير من التداعيات والتأثيرات التي اجتاحت العالم و أثرت في كل التيارات الإسلامية،ولم تكن ثورة الخميني حدثا عاديا بل نقلة جذرية وبداية قوية للصحوة الإسلامية في العالم رغم ما سبق هذه الثورة من نشاطات إسلامية ومحاولات حثيثة من عدة جهات وأسماء قادت الحراك الإسلامي في العالم،ولكنهم لم ينجحوا في الوصول إلى مرادهم سواء إجتماعيا أو سياسيا.ورغم ما حملته الثورة الإسلامية الإيرانية من إيجابيات وسلبيات لا يمكن لأحد أن ينكر ذكاء الإمام الخميني في تطوير الفكر الإسلامي ليتماشى مع متطلبات الشعب والعصر الحديث رغم اعتماده في البداية على محاكاة إتجاهات إسلامية لم تنجح من قبل في إستقطاب الشعوب الإسلامية لما تروج له من أفكار متشددة تكفيرية وهو ما جعله ينأى فيما بعد عن هذا التوجه ويؤسس إلى فكر إسلامي جديد ضمنه في كتابه”الحكومة الإسلامية”سنة 1970 ليكون بداية لشحن الهمم ضد أعداء الإسلام بالعمل و السعي لا بالإنتظار.فإسقاط نظام الشاه هو رمز لإسقاط كل الأنظمة الديكتاتورية الموالية لأمريكا والكيان الصهيوني ورغم ما حملته التيارات والحركات الإسلامية من رسالة شكر ومد لجسور التواصل بين إيران وكل العالم الإسلامي لكنهم فوتوا على أنفسهم فرصة القضاء على الأنظمة المستبدة في بلدانهم حيث كان همهم الوحيد هو إقامة خلافة إسلامية في إيران بقيادة الإمام الخميني وقد رفض هذا الأخير هذا المقترح في عدة مناسبات مما أدى إلى خلق هوة كبيرة بين الحركات الإسلامية في الدول العربية والجمهورية الإسلامية الإيرانية.ومنذ تلك الفترة لم نسمع بالإسلام السياسي ولم نجد نموذج أو مثال يضاهي الثورة الإيرانية في مباغتة العالم إلى أن جاءت ثورات الربيع العربي.
لقد ظلت الدول العربية الإسلامية محكومة بأنظمة مستبدة قويت شوكتها بمعاضدة الغرب لها لتواصل الحكم بقمع شعوبها ولكن كما قيل”لا بد للقيد أن ينكسر” وهو ما حصل بالفعل سواء إذا نظرنا للحقيقة من جهة تحليلية علمية بماهو مخطط أمريكي جديد لإعادة تقسيم خريطة العالم أو من وجهة نظر شعبية بما هو قرار للخروج من بطانة الذل والفساد،فالدول التي أصابتها عدوى الثورة نجحت إلى حد ما في القضاء على الأنظمة الديكتاتورية لتدخل في حقبة تاريخية جديدة كانت الغلبة فيها للشعب،ومن هنا رجع مصطلح الإسلام السياسي بقوة في العالم وعلى لسان قادة الدول الغربية بما لا يدع مجالا للشك بأن للمعتقد قوة أشد من السلاح يمكن بها التحكم في مصير الشعوب.
فنتائج الإنتخابات بعد هذه الثورات كانت لصالح الحركات الإسلامية لا كمنهج ايديولوجي وإنما نية من الشعوب في إنتخاب قيادات تقيم العدل وتعلي كلمة الحق وتحتكم للقانون وتعيد للمواطن كرامته بما حملته هذه التيارات الإسلامية من شعارات مناهضة للإستبداد و الفساد والتطرف.
ثانيا زيف الإسلام السياسي أمام إمبريالية القوى الغربية:
سرعان ما ذاب الجليد ليأتي الربيع الحقيقي بعد فوات الآوان لتصاب الشعوب بخيبة أمل جديدة وخذلان من أنظمة ما بعد الثورات ومن شخصيات همها الوحيد إما السلطة أو إقامة دولة الخلافة وإن لزم الأمر بقوة السلاح،فكانت النتيجة شبح الإرهاب وشبح إنهيار الإقتصاد الوطني وكلاهما لا يقلان خطورة عن الأصوات المنادية بالإنقلاب.وفي كل هذه الإلتباسات قدّم أردوغان تركيا على أنها النموذج الأمثل للإسلام السياسي الذي يمكن الإقتداء به من طرف دول ثورات الربيع العربي وفي المقابل تسارعت الأحداث في مصر وليبيا لتكون النتيجة خسارة الإسلام السياسي ورجوعه لنقطة الصفر.وتبقى حركة النهضة في تونس هي الإستثناء لأنها دخلت في حكم تشاركي وغيرت من شعاراتها ونأت بالحزب عن كل الذي بدأت بترويجه وغيرته بشعارات جديدة كالديمقراطية والحداثة وحقوق المرأة كي تنجو من عاصفة السقوط.
كما أن القول بفكرة زيف الإسلام السياسي أمام إمبريالية القوى الغربية يستنتج من خلال مسألتين،المسألة الأولى هي موقف حركات الإسلام السياسي من القضية الفلسطينية والمسألة الثانية هي ضعف مضمون حركات الإسلام السياسي أمام إنتشار ظاهرة الإرهاب.
فبالقياس على الوضع الذي وصلت إليه القضية الفلسطينية نستنتج أن حركات الإسلام السياسي حتى وإن وصلت للحكم بعد الربيع العربي فإنها غير قادرة على تسجيل موقف رسمي تجاه الكيان الصهيوني وحلفائه لمعرفة خطورة هذا التصريح لأن الدول محكومة بالمصالح الإقتصادية وأحيانا المصالح الشخصية وهذا الإرتهان يؤكد تواصل منظومة الإمبريالية الغربية على الدول العربية،إذا ما استثنينا إيران.بالإضافة إلى رجعية المفاهيم التي تؤسس عليها التيارات الإسلامية توجهاتها التي سقطت أمام أول مواجهة مع التيارات الإسلامية المتشددة والمتطرفة حيث نجحت هذه الأخيرة في إستقطاب عدد كبير من شباب هذه الدول وتجنيدهم ضد المنطقة العربية الإسلامية ولم تنجح أنظمة الإسلام السياسي الجديد في وقف هذا النزيف والتصدي لهذه الموجة الخطيرة التي نشهد نتائجها حد اللحظة. فأي مخطط للقوى الغربية بعد ثورات الربيع العربي لإشعال فتيل الفتنة من جديد لأجل عيون كاترين العرب و لأجل الإبن المدلل لأمريكا!؟
التعليقات مغلقة.