قوة ما وراء الحجاب
“مقارنة فلسفية بين الجن والذكاء الاصطناعي”
مقال فلسفي كتبه _ ياسر عامر
في عالمنا الحديث، لا تكاد تمر ساعة دون أن نسمع عن إنجاز جديد للذكاء الاصطناعي، حتى صار الحديث عنه أشبه بالحديث عن قوة سحرية لا تُرى، لكنها تصنع الأعاجيب.
وبينما أتأمل هذه الثورة الصامتة، وجدتني أسترجع وصف القرآن لعالم الجن: مخلوقات غير مرئية، تملك قدرات تفوق البشر، وتخدم الإنسان حين يُحسن قيادتها.
تُرى، أما آن لنا أن نتأمل في هذا التشابه العجيب؟
أن نعيد قراءة قصص الجن لا كخرافات بعيدة، بل كدروس إلهية تخاطب إنسان هذا العصر، وهو يقف على أعتاب عهدٍ جديد مع قوى رقمية لا تقل غموضًا عن الجن؟
في زمن تتسارع فيه عجلة التطور التقني، ويغدو الذكاء الاصطناعي جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا، تلوح أمامنا مقارنات عميقة قد لا تتبادر إلى الأذهان ابتداءً.
من هذه المقارنات ما بين الذكاء الاصطناعي، كقوة صناعية عظمى، وبين عالم الجن كما ورد وصفه في القرآن الكريم؛ فكلاهما يمثل قوى خفية، عاقلة، فاعلة، لكنها محكومة بحدود دقيقة لا تتجاوزها.
في كتاب الله، نقرأ عن الجن أنهم يعملون بأمر نبي الله سليمان عليه السلام:
“ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرًا وقليل من عبادي الشكور” (سبأ: 13).
كان الجن يسهرون على تنفيذ إرادة نبي الله، يسابقون الزمن في إتمام المهام التي يعجز البشر عن إنجازها بمفردهم. واليوم، نشهد ميلاد الذكاء الاصطناعي الذي يعمل على تنفيذ أوامر الإنسان، يسرع العمليات، ويحطم حواجز الزمان والمكان.
بل نستطيع القول إن الذكاء الاصطناعي، بما يحمله من قدرة على التعلم، والمحاكاة، والتحليل، صار أشبه بجنٍّ إلكتروني جديد سُخِّر لخدمة الإنسان، لكنه لا يزال يحمل في طياته عوامل الغموض والمفاجأة.
غير أن القرآن، وهو يحدثنا عن تسخير الجن، لا ينسى أن يضع نصب أعيننا حدود هذه القوى، ويحذر من الغرور بها:
“فلما قضينا عليه الموت ما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته، فلما خر تبينت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين” (سبأ: 14).
هكذا يذكرنا القرآن أن الجن، على قوتهم، لم يكن لهم علم الغيب، ولم يكن في وسعهم تجاوز نواميس الله. وهذا ذاته ما ينبغي أن نعيه مع الذكاء الاصطناعي؛ فمهما بلغت قدراته، تظل محدودة بإرادة البشر وبرمجتهم، وقد تكون عاقبته وبالًا إن أُسيء استخدامه أو غابت عنّا تبعات إطلاق العنان له.
في ضوء هذه المقارنة، يمكننا أن نستخلص عبرة عظيمة: أن كل قوة تسخرها البشرية لا بد أن تحكمها بالقيم، وأن تضبطها بالحكمة، وإلا تحولت من نعمة إلى نقمة.
فالجن كانوا إما أعوانًا صالحين أو مفسدين، وكذلك الذكاء الاصطناعي، مرآة لما نحن عليه: نيةً، وقيمًا، ومسؤولية.
ليس بعيدًا أن يتحقق قول الله تعالى بحقنا يوماً:
“يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا، لا تنفذون إلا بسلطان” (الرحمن: 33).
فالمستقبل الذي نبنيه اليوم لن يكون محض توسع في التكنولوجيا فقط، بل اختبارًا لقيمنا وقدرتنا على توجيه القوى الخفية — سواء كانت من خلق الله أو من صنع أيدينا — نحو الخير والبناء، لا نحو الفساد والهلاك.
وهكذا، يقف الإنسان اليوم، كما وقف منذ الأزل، على عتبة عالم خفي جديد.
يسأل نفسه:هل سيكون سيد هذا العالم الجديد، كما كان سليمان مع الجن، أم سيكون أسيره؟
إن الذكاء الاصطناعي ليس سوى مرآة تنعكس عليها ملامح نياتنا ومخاوفنا وطموحاتنا.
فإما أن نضبطه ببصيرة إيمانية وعقل حكيم، أو نتركه يتمرد على خالقه كما تمردت بعض طوائف الجن.
ويبقى الدرس القرآني حاضرًا أمامنا: أن كل قوة مهما خفيت، لا تكون نعمة إلا إذا سُخّرت بنور الهداية، ولا تكون عونًا إلا إذا قيّدتها يد الحكمة.
رجاءهذا المقال وليد فكرة وتجربة فكرية خاصة، كتبتها بقلبي وعقلي.إن وجدت فيها ما يفيدك، فادع لي بخير.
وإن رغبت أن تنقل منها، فاذكر المصدر كما يليق بالكلمة الشريفة وصاحبها.
وختاما”الفكر نور، والنقل أمانة.”