هكذا ومنذ عشرات السنين حلم مثقفو مصر أن يصبح عن تلك المدينة الضاربة فى جذور التاريخ، وفى بداية التسعينيات بدأ يلوح فى الأفق ذلك الحلم ويراود العديد من المهتمين بتراث المدينة وتاريخها وكان على رأسهم الكاتب الكبير كامل زهيرى الذي لقب بعاشق القاهرة ولقد وقع اختيار الكاتب الكبير على قصر الأميرة سميحة كاملة ابنة السلطان حسين كامل الذى حكم مصر ما بين 1914 – 1917 والذي يقع فى 15 شارع محمد مظهر بالزمالك ويحتضن النيل من جهته الشرقية ويرجع تاريخ القصر إلى نهاية القرن التاسع عشر حيث بناه المليونير اليهودي القطاوى باشا عام 1902، ثم اشترته الأميرة سميحة كامل وعاشت به حتى وفاتها عام 1984 هي وزوجها الفنان وحيد يسري ولقد شاء القدر ألا تنجب الأميرة بل عاشت وحيدة بهذا القصر الشاسع حتى بعد قيام ثورة 1952 ورفضت الأميرة أن تغادر القاهرة كباقى أفراد العائلة بل ظلت تحيا فى كنف قصرها رغم قسوة الأيام عليها فى نهاية حياتها. وكانت صاحبة القصر من مثقفي وفناني ذلك العصر حيث كانت تعشق الثقافة والفن، وتكتب الشعر باللغات العربية والفرنسية والتركية وكان لها صالون ثقافى تقيمه بين جنبات ذلك القصر يجتمع فيه مشاهير الأدب والعلم والفن فى مصر والعالم ، ولقد أوصت الأميرة قبل وفاتها أن يخصص القصر بعد وفاتها إلى عمل يخدم الثقافة والعلم فى مصر.
ولقد التقط الأستاذ كامل زهيرى تلك الوصية التي كادت أن تطوى بين دفاتر الزمن، عندما كاد أن يتحول القصر إلى قسم للشرطة على يد وزارة الداخلية آنذاك .حيث عرض فكرة تحويل هذا القصر إلى مكتبة عامة تخدم القاهرة وضواحيها وأن يطلق عليها اسم مكتبة القاهرة الكبرى، ولقد حكى زهيرى كيف تحول حلمه الذي راوده منذ بداية التسعينيات إلى حقيقة حيث قال:.كنت دائما أمر على القصر وكانت تلفت نظرى فيه تلك الروعة المعمارية الفريدة، وكنت خلال سفري الكثير خارج مصر وخاصة إلى فرنسا أرى كيف تتحول القصور إلى مكتبات، وكلما زرت المكتبة الوطنية بباريس، لا أعرف لما تستحضر ذاكرتي هذا القصر وتمنيت أن أرى هذا الصرح المعماري الموجود بجوار منزلي يتحول إلى مكتبة يكون هدفها الأساسي جمع ما يتعلق بتاريخ وتراث القاهرة وظل زهيرى متعلقا بحلمه حتي تحقق فى عام 1995 بافتتاح مكتبة القاهرة الكبري لرواد الثقافة والعلم والفن من مختلف أنحاء مصر والعالم.
ومنذ عام 1995 أصبحت مكتبة القاهرة الكبرى أكبر مكتبة عامة فى مصر بعد دار الكتب ومن أبرز مراكز الإشعاع الثقافى والحضارى التى أنشأتها وزارة الثقافة المصرية ،تبلغ مساحة المكتبة أكثر من 3465 مترًا ، تشغل المبانى 535 مترًا ، سُجل المبنى كأثر إسلامى عام 2011 وأهم مايميز مكتبة القاهرة الكبرى عن باقى المكتبات العامة فى مصر وهو تعانق التاريخ والفن والأدب والإبدع تحت سقف واحد حيث ينفرد القصر بتاريخ حافل وتجتمع فيه الفنون الإسلامية على اختلافها والفنون المملوكية والعثمانية و الفاطمية و الأندلسية ، إضافة إلى فنون عصر النهضة الأوروبية والفنون اليونانية و الرومانية ، يتكون القصر من ثلاثة طوابق وآخر تحت الأرض يحيط به سياج بديع من الحديد شُغلت بوابته الرئيسية بثلاثة عقود مفصصة بأطار مدبب ذات طابع أندلسى يعلوها عمودان من الحديد ينتهيان بمصابيح حديدية ومن خلال سلم من الرخام تصعد إلى القصر ليستقبلك بهو القصر البديع المكون من بوائك تذكرك ببوائك جامع قرطبة فى الأندلس ، وهى أندلسية الطراز أعمدتها من الرخام الفخم الوردى تيجانها مقرنصة تعلوها عقود مفصصة بأطر مدببة زخرفت بواطن العقود والتيجان بزخارف نباتية وهندسية مطلية بماء الذهب ، يفتح البهو على مجموعة من الحجرات أهمها على الجانب الأيمن حجر المصلى والتى صممت وكأنها أحد المساجد الإسلامية فى العصر المملوكى حيث فُرشت أرضيتها بالرخام الأبلق الأسود والأبيض ووضع بأحد أركانها محراب بعمودين من الرخام الأبلق الفاخر لتحديد اتجاه القبلة ، أما الحوائط فيها من الرخام المشهر الأصفر والبنى ، أما السقف فقد صمم وكأنك فى أحد مساجد المماليك الجراكسة ، فهو عبارة عن براطيم خشبية وعروق من الخشب مزخرفة بأشكال نجمية ونباتية ملونة بالأحمر والأصفر والأبيض ويرتكز السقف على أفريز خشبى عليه نقوش كتابية كوفية ، ويفتح البهو على حجرة الاستقبال الرئيسية بسقف فريد مازال يحتفظ بألوانه الأصلية ذات الطراز العثمانى ومزين بمجموعة من الزخارف النباتية المبهرة وتنفرد أبواب الحجرة عن باقى أبواب القصر بزخارف من النحت البارز على هيئة أوراق نباتية وبجوار حجرة الاستفبال تقع حجرة الصالون وهى تحفة معمارية فريدة تتجلى فيها الفنون الرومانية حيث يوجد بها عمودان يتميزان بالضخامة يعلوهما تيجان إيونية ، والحوائط عبارة عن بانوهات كبيرة بسيطة مزخرفة بأوراق نباتية وزهور صغيرة ، ويبهرك فى الجانب الأيمن من البهو وجود سلم من الرخام الفاخر باللونين الأبيض والوردى ، وعند صعود الدرج ستجد أمامك ثلاث نوافذ كبيرة تنتهى بعقود مدببة محمولة على أعمدة كبيرة ضخمة ذات طراز إسلامى هذه العقود تحمل قبة كبيرة تغطى السلم وقد زُخرفت بزخارف إسلامية وأربيسك وخطوط متقاطعة تسمى بزخارف الجفت اللاعب وهذا السلم يتفرع إلى طرفين بشكل دائرى يلتقيان فى الأعلى على بسطة منها إلى حجرة مستطيلة بها أربعة أعمدة كبيرة بتيجان وأوراق نبات الأكانتس ، وهى ذات طابع إغريقى وتفتح على خمس غرف أهمها حجرة تأخذ الشكل الدائرى ويوجد بأحد أركانه دعائم حجرية مستطيلة الشكل تعلوها عقود مدببة مكونة من بوائك تشبه بوائك جامع الحكم بأمر الله ، أما سقف الغرفة فيأخذ شكل بيضاوى محلى بزخارف نباتية جيصية داخل دوائر ومزهريات وورد وأوراق الأكانتس كلها من الجص الأبيض ، وأسفل السقف وأعلى الحوائط شريط عريض مزخرف بمحموعة كبيرة من النحت البارز لتماثيل آدمية لسيدات فى أوضاع مختلفة من الجص ترمز لآلهة الأساطير الإغريقية .
أما الطابق الثالث فيحتوى على قاعة دائرية الشكل بها نوافذ من الجص المعشق بالزجاج الملون تشبه النوافذ التى شاعت فى المساجد والعمائر العثمانية وتظهر القاعة من الخارج كبرج من الأبراج الحربية فى العصور الوسطى ، أما عن واجهات القصر الأربعة فتمثل نموذجا تطبيقيا لدارسى العمارة والفنون الإسلامية لما تحويه من عناصر معمارية وفنية إسلامية الطراز بحيث نجد مجموعة من النوافذ التى تنتهى بعقود محمولة على أعمدة مدمجة فى الحوائط إلى جانب شرفات مصممة تماثل البوائك داخل المدارس الإسلامية وتنتهى وجهة القصر الخلفية من أعلى بعنصر معمارى انتشر فى العصر المملوكى وهى الشرفات النباتية التى تسمى أخطرة البنيان لمنع السقوط من أعلى القصر .
إلى جانب كل هذا الفن والتاريخ يتجسد الإبداع فيما يحويه القصر من أعمال ثقافية وإبداعية وعلمية حيث حملت المكتبة وصية الأميرة المحبة للثقافة والأدب ، وأصبحت منارة ثقافية ومنبرا فكريا وملتقى لأفكار الإبداع والتميز حيث ضمت بين جنباتها أكثر من 180 ألف كتاب فى مختلف المعارف البشرية والإنسانية باللغات العربية والإنجليزية والفرنسية تقاسمت اللغات الثلاثة تلك الخبيئة الثقافية والعلمية ، ووضعت المكتبة لنفسها رسالة تنويرية حمل مشعلها أعلام من رواد الثقافة والأدب فى مصر تعاقبوا على رئاستها وعكفوا على تطويرها بما يخدم رسالتها الثقافية فى نشر الإبداع الفكرى وتبوء مصر مكانتها الثقافية عن طريق قواها الناعمة وحفظ تاريخ تلك المدينة العريقة بكافة أشكاله المادية والحضارية ، وتتنوع برامج المكتبة الثقافية بما يخدم كافة فئات المجتمع المصرى على اختلاف فئاته العمرية وتوجهاته الثقافية والفكرية من خلال سلسة من الندوات والمحاضرات وورش العمل والعروض المسرحية والسينمائية والوثائقية والرحلات والمعارض الفنية والمبادرات الوطنية ، كان آخرها المبادرة الثقافية “اعرف بلدك” التى تهدف إلى تنمية القيم الإيجابية فى المجتمع ونشر الثقافتين ومحاربة الأميات الثلاثة ، على رأسها الأمية الفكرية والثقافية للمساهمة فى تنمية قيم الانتماء الوطنى حيث تزود المبادرة الشباب والنشء والأطفال بكل ما يساهم فى بناء شخصية وطنية واعية قادرة على حمل مشاعل المستقبل إلى جانب دورها الرائد فى خدمة المكتبات العامة كبيت خبرة يقدم الدعم الفنى والتقنى للمكتبات المصرية فى مختلف أنحاء مصر وملتقى لاكتشاف الموهوبين والمبدعين من مختلف محافظات الجمهورية.
التعليقات مغلقة.