موقع اخباري شامل صادر عن مؤسسة تحيا مصر

رسالة من الشرق الأوسط: غزة .. وطني الممزق وآمال لم تتحقق

0

كتب جمال البدراوي ومحمد العبادي (شينخوا)

في صيف عام 2005، اجتاحتنا في غزة موجةٌ من الأمل الكبير، شعورٌ يكاد يبدو الآن غريباً تماماً. بصفتي صحفياً شاباً في ذلك الوقت، كنتُ في قلب الحدث، شاهداً على ما كان يُوصف بنقطة تحول تاريخية: الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.

كانت غرفة الأخبار أشبه ببوتقةٍ من الترقب، حيث كنا نتابع بشغف خطة رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أرييل شارون، للانسحاب أحادي الجانب من غزة. كان مستقبلنا يبدو وكأنه معلقا في الهواء ونحن نرصد التقارير المباشرة والمراسلات الميدانية.

لقد عايشنا العواطف الجياشة للانسحاب: الصرخات المتحدية للمستوطنين الرافضين لمغادرة منازلهم، الوداعات الممتلئة بالدموع تحت أعين الجنود الإسرائيليين اليقظة، والهدم المتعمد للمباني التي كانت ترمز لقمعنا.

كان كل تحديث بمثابة فصل جديد في قصة معقدة من التحرير والفقدان. في 12 سبتمبر 2005، وصلت الخاتمة الرمزية مع مغادرة آخر الجنود الإسرائيليين، تاركين وراءهم لوحةً بيضاء، كنا نأمل أن تُرسَم عليها غزة الجديدة.

بالنسبة لنا، نحن أهل غزة، لم يكن هذا مجرد حدث سياسي، بل كان تحولاً وجودياً.

قبل تلك اللحظة، كانت حياتي، وحياة جميع الغزيين، محكومة بالإيقاع الخانق للاحتلال. أي مهمة عمل بسيطة كانت تعني خوفاً دائماً من الحاجز العسكري التالي، فكل واحد منها كان فخاً محتملاً، حيث يملك الجنود سلطة إذلالك أو اعتقالك.

الأيام الأولى للانسحاب كانت أعراسا من الاحتفالات. كانت طرق غزة السريعة، التي عادةً ما تخنقها الحواجز العسكرية، تضجّ بمسيرات الفرح. السيارات المزينة بالأعلام الفلسطينية تجوب المدينة، وأبواقها تطلق سيمفونية من الحرية.

لا يمكن أن أنسى مشهد دخول الناس، عائلات بأكملها، إلى المستوطنات التي تم إخلاؤها للمرة الأولى. لأجيال، كانت هذه الأراضي منطقة محظورة، عالماً آخر مخفياً خلف الأسوار وأبراج المراقبة. كانت لحظة عميقة، شعورا جديدا بطعم السيادة لم نكن نتخيله إلا في أحلامنا.

ومع ذلك، كان أمل 2005 قصير الأجل بشكل مأساوي. فبدلاً من أن يولد الانسحاب الإسرائيلي من غزة الاستقرار، كشف عن فراغ سياسي سرعان ما تحول إلى صراع داخلي.

استغلت إسرائيل هذا التشرذم، وفرضت حصاراً شاملاً أغلق بر غزة وبحرها وجوها. وما تلاه كان اختناقاً بطيئاً تفاقم بسبب الهجمات العسكرية المتكررة، بما في ذلك عملية “الرصاص المصبوب” في 2008، و”عامود السحاب” في 2012، و”الجرف الصامد” في 2014. دمرت هذه الحروب المنازل، والبنية التحتية، والمدارس، والمستشفيات، وحتى محطة توليد الكهرباء الوحيدة في غزة، مما أغرق القطاع في ساعات طويلة من الظلام.

لا تزال أصداء كلمات والدي الراحل تتردد في داخلي. كان دائماً يتوسل إليّ بالبقاء في غزة، متشبثاً بالأمل حتى في خضم اليأس. كان يقول لي إن الأمور لا بد أن تتحسن يوماً ما، وأن غداً أكثر إشراقاً آتٍ لا محالة.

لكن حرب 2014 كسرت إرادته. استسلم لخوفه عليّ، وعلى حياتي المحفوفة بالمخاطر كمراسل ميداني، خاصة بعد أن شهد مقتل زملاء خلال هجوم ذلك العام. ما زلت أستطيع سماع نبرة صوته المُرّة والواهنة وهو يقول: “من الأفضل أن تسافر وتجد عملاً في مكان آخر. غزة لم تعد آمنة لك”.

وبما أنني أمتلك جنسية مصرية، اتخذتُ القرار المؤلم بالمغادرة، باحثاً عن ملجأ لعائلتي – زوجتي وطفليّ – في القاهرة.

لطالما تمسكتُ بالاعتقاد بأن هذه الحروب مجرد أحداث مؤقتة، وأن حلم الدولة الفلسطينية المستقلة سيتحقق يوماً ما. ثم جاء 7 أكتوبر 2023، والحرب التي تلت أحداث ذلك اليوم. هذه الحرب تبدو مختلفة – ليست مجرد جولة من جولات النزاع العسكري، بل هي انهيار كامل لكل شيء في غزة. لقد حوّلت التصريحات السياسية للمسؤولين الإسرائيليين عن تهجير سكان القطاع وضمه، وأصداء خطط الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لتهجير الغزيين، الصراع السياسي إلى أزمة وجودية.

لم يتحقق وعد عام 2005 فحسب، بل تم إجهاضه بوحشية، ومثل مئات الآلاف من الفلسطينيين، يسيطر عليّ الآن الخوف العميق من أنني لن أتمكن من رؤية غزة مرة أخرى.

ابني البالغ من العمر 14 عاماً فقط، يعيش حياة من التناقضات الصارخة، فهو يدرك اللعبة القاسية للقدر التي منحته قدراً من الأمان، ووطناً جديداً احتضنه. أحياناً يشعر بنوع من الحظ بامتنان هادئ لحياة مستمرة.

ومع ذلك، فإن هذا الارتياح يظل مظللاً بطفولة وسمتها خسائر لا يمكن تصورها. إنه يحمل ثقل الذكريات وأشباح الأصدقاء والأقارب الذين لم ينجوا من الحرب في غزة. وكثيراً ما يعود ليسأل سؤالاً لا ينبغي لأي طفل أن يضطر لطرحه: “هل سنتمكن من زيارة غزة مرة أخرى؟”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.