ليست القصة طبعا فى “الهجوم المضاد” الذى يتعثر ، ويترنح إلى الآن على صخرة الدفاعات الروسية الحصينة فى الشرق والجنوب ، ولا القصة فى غارات مسيرات أوكرانية على موسكو وشبه جزيرة القرم و”جسر كيرتش” و”بيلجورود” وغيرها ، فهذه كلها ألعاب دعائية ومعنوية ورمزية ، ومن دون أثر حربى ملحوظ ، وطلقات دخان طائش ، ربما لإخفاء التحول الأخطر فى سيرة الحرب ، التى كانت من بدايتها ذات طابع عالمى ، ثم صارت عالمية كاملة الأوصاف ، وإن ظلت مقيدة جغرافيا بحدود أوكرانيا ، ومسقوقة حربيا بعدم التورط فى صدام بالسلاح النووى ، لكن الجديد الذى طرأ فى الأيام الأخيرة ، أن جبهات الصدام بالسلاح ، تتداخل وتندمج جغرافيا الآن مع جولات الصدام على جبهة الاقتصاد ، وتتحرك قوافل الحرب من البر إلى البحر ، وبالذات منذ قرار روسيا الأخير بالخروج من اتفاق الحبوب ، ثم إعلان موسكو إغلاق “البحر الأسود” أمام سفن الحبوب القادمة من الموانئ الأوكرانية ، واتجاهها لتدمير ميناء “أوديسا” وغيره ، مما تبقى صالحا للعمل فى خدمة كييف ، وإلى حد قصف ميناء “رينى” الأوكرانى عند نقطة التقاء البحر الأسود مع نهر “الدانوب” ، وعلى بعد خمسمائة متر فقط لا غير من حدود “رومانيا” العضو فى حلف شمال الأطلنطى “الناتو” . ويبدو الهدف الروسى القريب فى تمام الوضوح ، فموسكو تريد خنق أوكرانيا تماما من كل الجهات ، وإنهاء فسحة عام اتفاق الحبوب ، الذى تمكنت كييف فيه من تصدير ملايين من أطنان الحبوب ، بينها ثمانية ملايين طن من القمح ، لا تشكل سوى 4% من تجارة القمح العالمية ، المقدرة بنحو 200 مليون طن سنويا ، وتحتل فيها روسيا مكانا متقدما ، وباستعداد لتصدير ما يصل إلى 50 مليون طن سنويا ، تواجه مصاعب العقوبات الغربية المفروضة على موسكو ، والتى زاد عددها إلى اليوم على 15 ألف عقوبة ، لم تحقق الهدف المراد فى خنق الاقتصاد الروسى ، الذى تجاوز بسلاسة عواقب تفجير خطى أنابيب “نورد ستريم” ، وامتناع أغلب الدول الأوروبية عن شراء الغاز والبترول الروسيين ، وفرض سقف أسعار للمنتجات البترولية الروسية ، رفضته موسكو ، وامتنعت عن التصدير المباشر لمن تسميهم “الدول غير الصديقة” ، وهم طائفة واسعة من الدول على رأسها أمريكا ، عوضتها موسكو بالاتجاه شرقا وجنوبا ، وتكثيف تصدير الطاقة بالتعاون مع الصين والهند والشرق الأوسط ، وراحت تبيع منتجاتها البترولية والغازية بأسعار تفضيلية مخفضة للأصدقاء ، زادت بحكم احتياجات السوق ، إلى ما فوق سقف الستين دولارا لبرميل البترول ، ودعمتها علاقات جيدة مع “المملكة السعودية ” وغيرها فى منظمة “أوبك” وفى “أوبك بلس” ، وبأسطول بحرى ضخم بديل من سفنها التجارية الخاصة ، وصار الكل حتى فى الغرب الأوروبى ، يشترون الغاز والبترول الروسى ، عبر وسطاء ومستفيدين محظوظين ، فوق استمرار أمريكا والغرب فى الاستيراد النشط للوقود النووى الروسى ، واستثناء اليابان لنفسها من حظر الغاز الروسى وتسقيف الأسعار، وربما تسعى روسيا لتكرار تجربة النجاح ذاتها فى مجالات تصدير القمح والحبوب والأسمدة ، وبوسائل متداخلة ، تركت فيها الباب مواربا لإمكانية العودة إلى اتفاق الحبوب ، وبشروط إلغاء كافة العقوبات الغربية المتصلة بالمجال الحساس ، بينها إعادة ربط “البنك الزراعى الروسى” وبنوك أخرى بنظام الدفع “سويفت” المتحكم به غربيا ، ورفع الحظر على الآلات والماكينات الزراعية ، والتأمين المالى والفنى لسفن الحبوب والأسمدة الخارجة من روسيا ، وبدت هذه الشروط وغيرها ، كأنها دعوة لإذعان الغرب لإرادة موسكو ، والتفكيك التدريجى للعقوبات الغربية بأكملها ، أو كأنها هجوم روسى مضاد على جبهة الاقتصاد ، وعلى جبهة الأمن الغذائى العالمى بالذات ، دعمته موسكو بإجراءات عسكرية خشنة فى “البحر الأسود” ، بدعوى أن سفن الحبوب الداخلة إلى أو الخارجة من موانئ أوكرانيا ، يحمل بعضها أسلحة وقذائف وزوارق مسيرة ذاهبة إلى أو قادمة من أوكرانيا ، مع رفع درجة تأهب سفن ومدمرات الأسطول الروسى الحربى ، وتهديدها بتوقيف أو بإغراق أى سفينة تجارية تخالف الحظر الروسى ، وهو ما ردت عليه أوكرانيا بالمثل قولا ، ولكن من دون مقدرة أوكرانية على فعل المثل الروسى ، ومن دون استعداد تركيا وسيط الاتفاق وعضو “الناتو” لمساعدة كييف ، فقد أعلنت “أنقرة” بوضوح ، أنه لا استئناف لاتفاق الحبوب من دون روسيا ، ولا من دون تنفيذ الشروط الروسية الواردة أصلا فى نص الاتفاق المصادق عليه من “الأمم المتحدة” ، وهو ما يضع أمريكا و”الناتو” والغرب كله فى الزاوية الحرجة ، فقد لا يمكنهم القبول علنا وعاجلا بشروط موسكو ، والا عد ذلك هزيمة جديدة للغرب أمام روسيا ، وليس بوسعه أيضا ، أن يناصر حليفه وتابعه الأوكرانى الرئيس “فولوديمير زيلينسكى” ، ولا أن يتجاوب مع مطالبه الملحة ، بأن ترافق وتحمى سفن “الناتو” الحربية كل سفينة حبوب تجارية تأتى من أوكرانيا ، لأنه لو فعل افتراضا ، فإنه يخالف رغبة واشنطن فى تجنب الصدام المباشر مع الجيش الروسى ، خشية أن يتطور الصدام إلى حرب نووية مفتوحة ، تملك فيها روسيا عناصر التفوق الحاسم فى المخزون النووى وصواريخ يوم القيامة ، خصوصا مع تضاعف حوادث التحرش الروسى بالطائرات والمسيرات الأمريكية ، من “البحر الأسود” حتى سماء سوريا ، ومع توثق عرى ومناورات التحالف العسكرى الروسى الصينى فى المحيط الهادى ، وكلها مما ينذر بمخاطر ماحقة ، تريد إدارة الرئيس الأمريكى “جو بايدن” تحاشيها ، وبالذات مع اقتراب موسم عام الانتخابات الرئاسية ، التى تشير استطلاعات الرأى المبكرة فيه ، إلى تدهور حظوظ “بايدن” وعلو كعب منافسه المحتمل “دونالد ترامب” ، فى الوقت الذى لا يملك فيه الحلفاء الأوربيون فرصة ميسرة لإنقاذ قمح وحبوب أوكرانيا ، ولا لتأمين استخدام مسار “نهر الدانوب” ، بديلا عن الحصار الروسى فى “البحر الأسود” ، خصوصا مع رفض خمس من دول أوروبا الشرقية ، وكلها من أعضاء “الناتو” و”الاتحاد الأوروبى” ، أن تسهل نقل منتجات الحبوب الأوكرانية “الرخيصة” إليها أو عبرأراضيها ، وبسبب منافستها لمنتجاتها الزراعية ، وغضب مزارعيها ونقاباتهم ، وهو ما كان “الاتحاد الأوروبى” قد استجاب له ، وفرض حظرا ساريا على المنتجات الأوكرانية حتى سبتمبر المقبل ، تطالب الدول المعنية المتضررة بتجديده . والمحصلة ، أن روسيا أفشلت حتى اليوم “الهجوم الغربى” المضاد عسكريا ، وأحبطت رهان “واشنطن” على الجدوى الحربية للأسلحة المتدفقة بلا حساب إلى الميدان ، فوق مساعدات ومنح إعاشة من تبقى من الأوكران ، والتى زادت كلها حتى اليوم من الغرب كله نحو 500 مليار دولار ، وهو ما يعنى استنزافا رهيبا متصلا للأموال ولسمعة السلاح الغربى المحترف ، ومن دون أمل ظاهر فى دفع روسيا إلى تفاوض مريح للغرب ، يحفظ فيه بعض ماء وجهه الغائض ، فيما تبدو موسكو مستعدة للاستطراد فى عملياتها العسكرية المتمهلة الصبورة إلى سنوات طويلة ، وتلتزم اليوم بموقف دفاعى غالبا ، تحافظ فيه على ما ضمته فعلا من الأراضى الأوكرانية ، وربما تضيف إليها باتجاه “ميكولاييف” و”أوديسا” مع انقلاب الموقف الحربى على الجبهات الطويلة ، بعد استنزاف طاقة المقاتلين الأوكرانيين والفيالق الأجنبية ، وبهدف تحويل أوكرانيا إلى “أفغانستان جديدة” للغرب كله ، ولواشنطن بالذات ، وعلى قصد أن ينتهى مصير “زيلينسكى” ، إلى ما انتهى إليه الرئيس الأفغانى الأخير الهارب “أشرف غنى” ، وأن تكتفى واشنطن من الغنيمة بالإياب المخزى ، ومن جانبها ، تعاند الإدارة الأمريكية طبعا ، وعلى أمل هزيمة الرئيس “فلاديمير بوتين” وتفكيك روسيا ، وهو الرهان الذى خاب مع ما أسمى “تمرد فاجنر” ، ثم قذف “بوتين” لكرة “فاجنر” الملتهبة إلى حدود بولندا “الأطلنطية” عبر بيلاروسيا ، وإعلان المخابرات الأمريكية والمخابرات البريطانية عن الحاجة إلى تجنيد آلاف الجواسيس من داخل روسيا ، وتدبير انقلاب ضد “بوتين” ، الذى يبدو فى كامل قوته الشعبية وتألقه الذهنى ، ويواصل ألعاب “الشطرنج” مع عواصم الغرب ، ويحظى بدعم أكبر من “الصين” الزاحفة إلى عرش العالم الجديد ، ومن تحالفات العالم الجديد الاقتصادية ، لمنظمة “بريكس” وجماعة “شنجهاى” وغيرها ، وحتى من الدول الأفريقية المتضرر الأكبر من أزمة الغذاء العالمى وغلاء أسعار القمح ، وقد ذهبت هذه الدول إلى “بوتين” فى “القمة الروسية ـ الأفريقية” ، وفى منتدى “سان بطرسبرج” الاقتصادى ، الذى يتخذه “بوتين” كمنصة لكسب تعاطف وتأييد شعوب الجنوب العالمى بعامة ، ويعرض استعداد روسيا وحدها لحل كافة مشاكل وأزمات الغذاء العالمية ، وتصدير منتجاتها الهائلة من القمح والحبوب والأسمدة بأسعار تفضيلية مخفضة لأصدقاء روسيا ، أو حتى منح القمح مجانا للمحتاجين غير القادرين على الدفع ، وهكذا يستنزف “بوتين” ، وينسف ادعاءات الغرب ، التى تتهم روسيا بأنها وراء أزمة الجوع فى العالم .
التعليقات مغلقة.