عبد الحليم قنديل
البرلمان معنى قبل أن يكون مبنى ، البرلمان هو العنوان الأوفى لسلطة الشعب ، وفى النظم البرلمانية ، تكون الكلمة الأولى والأخيرة للبرلمان ، وفى النظم الرئاسية ، تكون سلطة البرلمان موازنة ومعادلة لسلطة الرئيس المنتخب شعبيا ، وفى نظامنا “البرلماسى” المختلط ، تكون سلطة البرلمان أكبر بكثير ، مما بدت عليه سيرة وعمل “مجلس النواب” المنقضية دوراته بعد شهور .
ومع كامل التقدير لآراء أخرى ، قد ترى مزايا فى البرلمان المنقضى ، من نوع زيادة حضور الشباب فى عضويته ، أو زيادة تمثيل النساء وفئات أخرى ، أو مئات التشريعات التى أقرها فى زمن قياسى ، وكلها عناصر مرئية ، إلا أنها لاتخفى ضعفا ظاهرا فى الدور الرقابى ، وقلة اكتراث الحكومة بالمناقشات البرلمانية ، وصورية الأسئلة وطلبات الإحاطة والبيانات العاجلة ، واختفاء الاستجوابات بالجملة ، وهو ما أثار تساؤل الرئيس السيسى نفسه علنا ، وبما قد يدفع “مجلس النواب” لمناقشة استجواب ما على سبيل استيفاء الشكل ، وفى مقابل ضعف الدور الرقابى للبرلمان ، بدا التحرش ظاهرا بالعدد المحدود من نواب المعارضة (كتلة 25 ـ 30) ، وقلة العناية بتنفيذ أحكام القضاء ، وإهمال طلبات النيابة العامة برفع حصانة أعضاء كثيرين ، وإلى حد إهدار حكم نهائى بات من محكمة النقض .
ونتصور أن السبب الرئيسى لضعف البرلمان المنقضية دوراته قريبا ، هو ضعف معناه بعد مبناه ، وبالدقة ضعف تمثيله الشعبى ، صحيح أن إجراءات انتخابه كانت صحيحة عموما ، وأن الدستور والقوانين ذات الصلة ، لاتشترط نصابا معينا لصحة إجراءات الانتخابات العامة ، لكن حقائق السياسة لها شأن آخر ، وأرقام التصويت ونسبه لها دلالة ناطقة ، وبحسب البيانات الرسمية ، فقد كانت نسبة الإقبال على التصويت متواضعة ، كانت النسبة تدور حول 28% من إجمالى الناخبين فى دورة التصويت الأولى ، ونزلت النسبة إلى نحو العشرين بالمئة فى انتخابات الإعادة ، التى جرى بموجبها شغل الأغلب الساحق من مقاعد البرلمان ، ومما زاد من وطأة ضعف نسبة التصويت ، أن الانتخابات جرت بالقائمة المطلقة وبالنظام الفردى ، وكلاهما يهدر نحو نصف الأصوات ، ويفقدها أى مردود تمثيلى فى تشكيل البرلمان المنتخب ، فالذى يفوز فى النهاية ، هو المرشح الحاصل على نصف الأصوات زائدا بصوت واحد ، سواء كان فردا أو قائمة مطلقة بعينها ، ويعرف المعنيون ، أن نظام “القوائم المطلقة” ، قد اختفى من تجارب الدنيا الديمقراطية كلها ، وهو أقرب للتزكية الاستتفتائية منه إلى مبدأ الانتخاب ، إضافة للهزال السياسى لنظام الانتخاب الفردى ، فهو طارد لمعنى السياسة وتنافساتها واختياراتها ، إلا فى الدول التى استقر فيها نظام الحزبين الرئيسيين ، بينما لا يفرز عندنا فى الأغلب سوى “نواب الخدمات” ، الذين لا يشغلون بالهم بأولويات الرقابة والتشريع ، ولا يكون جل همهم ، سوى كسب مصالح مشروعة أو غير مشروعة ، تخص جماعات من الأقارب أو الناخبين أو مفاتيح الانتخابات ، أو غيرها من شئون وشجون ، هى أقرب لوظائف أعضاء المجالس المحلية لا نواب البرلمان الوطنى الجامع ، ولا صفة “نائب الشعب” كله ، أيا ما كانت جغرافيا انتخابه المحدودة ، وهو ما قد يعنى فى المحصلة ، أن الأغلب الساحق من نواب البرلمان المنقضى ، لا يمثلون شعبيا ، سوى ما يزيد قليلا على عشرة بالمئة من إجمالى الناخبين المقيدين ، فوق صنوف العوار اللصيقة بنظامى القائمة المطلقة والانتخاب الفردى ، وهو ما يفسر نواحى الضعف التى انتابت بنيان البرلمان ، فوق تضييع معناه الرقابى بصورة فادحة .
وأيا ما كان الرأى النسبى فى دور البرلمان الذاهب ، فإن أحدا عاقلا ، لا يريد للبرلمان المقبل ، فيما نتصور ، أن يكون على صورة سابقه ، ونقطة البدء فيما نرى ، هى عدم العودة إلى نظام القائمة المطلقة ولا لنظام الانتخاب الفردى ، وكلاهما قاتل فى ظروفنا لمعنى السياسة ، ودافع للناخبين إلى اعتزال صناديق التصويت ، ومهدر لأدوار البرلمان الأساسية فى جدية الرقابة وجودة التشريع ، وآخذ من مؤهلات الكفاءة المفترضة لأعضاء البرلمان ، ومن حجم التمثيل الشعبى المفترض فيه ، ثم أنه لا اضطرار أبدا للعودة إلى ما سلف من نظم انتخاب ، فالانتخابات العامة ، والانتخابات البرلمانية بالضرورة ، لمجلس النواب ، أو لمجلس الشيوخ المضاف حديثا فى تعديلات الدستور الأخيرة ، كل هذه الانتخابات سياسية المغزى بطبائع النظم ، والدستور القائم يرسع الأبواب ، ويتيح للمشرع حقوقه كاملة ، ويجيز الأخذ بأى نظام انتخابى ملائم ، ولا شئ يستحضر معنى السياسة الغائبة فى حاضرنا ، سوى الأخذ بنظام القوائم النسبية المفتوحة ، الذى يحفظ القيمة التمثيلية العادلة لكل صوت انتخابى ، وتزيد فيه أرجحية البرامج والسياسات على دواعى المال والعصبيات ، ويعكس الصورة العامة للبلد ، حتى لو جرى الأخذ بالنظام النسبى فى نطاق كل محافظة على حدة ، وعلى أمل تطور لاحق ، نتقدم فيه إلى جعل مصر كلها دائرة واحدة ، يجرى فيها إعداد القوائم النسبية فى نطاق وطنى شامل .
وبطبائع الأحوال ، فإن “القوائم النسبية” ليست مقصورة على الأحزاب ، ولا على جماعات من الأحزاب ، تتكتل معا فى قائمة بعينها ، بل “القوائم النسبية” مفتوحة لكل المواطنين ، وبتضمين أحكام الدستور المشترطة لنسب محفوظة لفئات بعينها ، وسواء كانت القوائم كاملة العدد أو منقوصة ، فلا تقييد لحق الترشح ، إلا أن يكون فى نظام القوائم الاختيارى ، وما من سبيل لغرس نبتة السياسة ، ورعايتها وإنمائها ، إلا بنظام انتخابى ، تكون السياسة جوهره ، وهو ما لا يتحقق فى أكمل صوره ، بغير نظام القوائم النسبية المفتوحة ، فاختيار نظام انتخابى بعينه ، ليس اختيارا بالقرعة ، بل يعكس انحيازا لمعنى استحضار السياسة أو تغييبها ، والديمقراطيات الناشئة ، تحتاج إلى تكريس السياسة لا الالتفات عنها ، والشكوى من تكاثر عدد الأحزاب القانونية فى مصر ، وهزالها المفجع ، لا معنى لها ، فليس عدد أحزاب مصر كبيرا قياسا إلى حجمها السكانى ، والنظام الانتخابى الملائم ، هو الذى يحيى أحزابا تستحق ، ويميت أغلبها عديم الجدوى ، ويستبقى فى الصورة العامة أحزابا بوزن مؤثر ، تكون حصيلة لاندماجات وتكتلات سياسية فى نظام القوائم النسبية المفتوحة ، وبما يعين على رسم خرائط السياسة على نحو مفهوم للجمهور ، وقادر على صياغة حكومات سياسية ومعارضات مبدئية .
وما من داع لتخوفات فى غير محل ، قد تكون فى بال صناع القرار والتشريعات الانتخابية ، من نوع التحسب الزائد لنفوذ باق محتمل لأحزاب تيار اليمين الدينى ، فالدستور يحظر إقامة أحزاب على أسس دينية ، وبوسع المشرع أن يضيف إلى الحظر حظرا ، على قوائم تبنى على أسس دينية ، ثم أن أهم أحزاب اليمين الدينى ، ونقصد هنا حزب وجماعة الإخوان ، صار فى خانة الحظر من زمن ، وبأسباب التحول الإرهابى لسلوكه ، واختياره للصدام مع ثورة الشعب المصرى فى 30 يونيو 2013 ، التى هى الموجة الثانية العظمى لثورة 25 يناير 2011 ، وبين الموجتين ، كانت اختيارات الشعب المصرى ناطقة فى تصويته قبل ثورته الكاسحة ، ولنتذكر معا بعضا مما جرى ، فقد فاز حزب الإخوان وحده بنسبة زادت على 47% فى أول انتخابات برلمان جرت بعد ثورة يناير ، وبعد ستة شهور لاغير ، كان مرشح الإخوان فى الدورة الأولى لانتخابات الرئاسة 2012 ، يحل أولا بين المتنافسين ، ولكن بنسبة لم تتجاوز 24% من إجمالى المصوتين ، أى أن قوة الإخوان التصويتية ، كانت قد نزلت إلى النصف فى مدى شهور قليلة ، ومع تجربة الإخوان فى الرئاسة والحكم ، راحت شعبيتهم تتدحرج إلى السفح ، وإلى نسبة لا تجاوز العشرة بالمئة كما نقدر ، وربما أقل ، فى لحظة خروج الشعب المصرى بعشرات ملايينه إلى ميادين ثورة 30 يونيو 2013 ، وهو ما يدعو إلى مزيد من ثقة فى قرار الشعب وصواب اختياراته ، وحلمه ببناء دولة وطنية مدنية ديمقراطية ، تنقشع فيها وعنها أوهام وغشاوات اليمين الدينى ، ويجرى الاختيار فيها على أسس السياسة وانحيازاتها الاجتماعية والاقتصادية وحدها ، وقد نضج وعى الشعب المصرى فى تجربة الثورة بموجتيها ، وفى اتحاد غالب صفوفه فى مكافحة التسلط والإرهاب باسم الدين ، وقد كان تضخم “اليمين الدينى” ثمرة مريرة لعقود من الانهيار الاقتصادى والاجتماعى والسياسى ، تحول فيها المجتمع إلى غبار بشرى تائه ، وتراجعت فيها أحزاب واختيارات السياسة الحية ، وكاد الحكم يتحول فيها إلى ملك عائلة وراثى ، تجاور فيه “شفط الثروة” مع شفط السلطة .
وقد لا نحتاج إلى تأكيد فوق التأكيد ، أن بناء برلمان يليق بمصر ، هو عملية لا تجرى فى فراغ ، ولا تنصلح أحوالها بالضرورة ، فى مجرد السعى لنظام انتخابى سليم ، نفضله على صورة اختيار نظام “القوائم النسبية المفتوحة” ، وبما يعزز الثقة فى أولويات السياسة وبرامجها ، ويبلور وعيا جديدا عند الجمهور ، يفتح المسالك الممكنة للثقة فى الشعب ، وهو حجر الأساس فى بناء الدولة ، فالدولة بالتعريف هى أرض وشعب وجهاز حكم ، والشعب هو الاختصار الأوفى لمعنى الدولة ، ووعيه وهمته وعمله وحريته ، هى التى تقرر المصائر ، وقد نحتاج فى هذه المرحلة إلى صوغ توافق عام حول مهام كبرى ، نتصور أن خمسة عناصر متلازمة متوازية تبرز بينها ، هى – أولا – تأكيد الاستقلال الوطنى وحرية القرار المصرى ، وثانيا : أولوية التصنيع الشامل ، وثالثا : رد الاعتبار لمبدأ العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص ، ورابعا : شن حرب متكاملة لكنس إمبراطورية الفساد الأخطر من الإرهاب ، وخامسا : فتح المجال العام والإطلاق التدريجى المحسوب للحريات العامة ، ونتصور أن المهمة الأخيرة هى الألصق مباشرة بهدف التقدم إلى برلمان أفضل ، وقد يرى آخرون ، أن يطلقوا عليها صفة “الإصلاح السياسى” ، وإن كنا نفضل صفة “التجديد” السياسى ، المتوازى لزوما مع التجديد الوطنى والاجتماعى والاقتصادى وتطهير جهاز الدولة ، وفى باب التجديد أو الإصلاح السياسى ، ليس من ثمة خلاف منظور ، فقد مرت مصر بسنوات أخيرة ، طغت فيها أولوية مكافحة الإرهاب ، وإلى أن جرى تحطيم البنية الأساسية القتالية لجماعات الإرهاب ، وطبيعى أن تؤثر أجواء الحرب ضد الإرهاب على حالة الحريات العامة ، وهو ما يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر ، بالتقدم إلى سياق جديد ، تزول معه تدريجيا اعتبارات حالة الطوارئ ، مع إطلاق حريات التعبير والتنظيم والحركة ، ويرد الاعتبار لحريات الصحافة والإعلام ، وتتاح للأحزاب فرص التواصل المباشر مع الجمهور فى الهواء الطلق ، وإعادة الأجهزة الأمنية لأدوارها الوظيفية الأصلية ، وإزالة كافة المظالم ، وتعزيز استخدام صلاحيات الرئيس فى العفو عن المحتجزين بقضايا سياسية ، والعمل لإصدار “قانون عفو عام” شامل ، يضع حدا فاصلا بين السياسة والإرهاب ، ولا يستثنى من التمتع بمزاياه ، سوى المتهمين أو المحكوم عليهم فى قضايا عنف وإرهاب مباشر ، ويفكك ظواهر الاحتقان السياسى ، مع توجهات موازية لتفكيك الاحتقان الاجتماعى الأخطر ، وشفع الإنجاز غير المنكور بانحياز أوضح للفقراء والطبقات الوسطى ، وإجتذاب أوسع قطاعات الشعب لانتخابات عامة ، يسبقها حوار وطنى كفء ، وتقودنا إلى برلمان جديد ، يستحق صفة “بيت الشعب” بامتياز .
مؤسسة تحيا مصر الإعلامية: نظرة عامة
مؤسسة تحيا مصر الإعلامية هي كيان إعلامي مصري تأسس بهدف دعم الرؤية الوطنية وتسليط الضوء على الإنجازات التي تحققها مصر في مختلف المجالات. تسعى المؤسسة إلى تقديم محتوى إعلامي إيجابي وموضوعي، يهدف إلى:
نشر الوعي: رفع مستوى الوعي لدى المواطنين بالقضايا الوطنية والمجتمعية.
دعم التنمية: تسليط الضوء على مشاريع التنمية الجارية في مصر، وإبراز دور الدولة والمجتمع المدني في هذا الصدد.
تعزيز الهوية الوطنية: تعزيز الانتماء الوطني لدى المواطنين، وتقديم صورة إيجابية عن مصر في الخارج.
أهداف المؤسسة الأساسية تشمل:
إنتاج محتوى إعلامي متنوع، يشمل الأخبار والبرامج التلفزيونية والراديو، والمقالات والتقارير الصحفية.
تغطية الأحداث المحلية والإقليمية ذات الاهتمام العام.
تنظيم المؤتمرات والندوات والحلقات النقاشية حول القضايا المعاصرة.
التعاون مع المؤسسات الإعلامية الأخرى داخل مصر وخارجها.
التعليقات مغلقة.